درجت الحضارات البشرية على تكريم شخصياتها الفَّذة التي ساهمت في رُقيّها، احتفاءً بمُساهماتها وتكريماً لجهودها، وفي الوقت ذاته شحذاً لهمم الأجيال للاحتذاء بها. أرسطو وابن سيناء، آنشتاين ومالبرانش، وغيرهم كثيرون ممن يحتفي العالم اليوم بنتاجهم الفلسفي والعلمي.
بودي أن أسلطّ بقعة ضوء على امرأة ساهمت مساهمة استثنائية في بلوغ تعاليم الوحي وإرشادات النبوة بين أيدينا اليوم، فقبيل أيام، وتحديداً العاشر من شهر رمضان، مرَّت بهدوء شديد ذكرى وفاة امرأة تمكنّت من أن تتواجد بجهادها وتضحياتها وصبرها لتكون ضمن أفضل نساء العالمين على وجه الأرض. الاختيار ما كان في مجال ريادة الأعمال التجارية، رغم أنها كانت فعلاً رائدة أعمال كُبرى، فلقد كانت تمتلك قرابة 10% من مجموع تجارة بلدها، إلا أنَّها وعندما تزوجت برجل وقع اختيار السماء عليه ليكون خاتماً للأنبياء، انخرطت بثروتها في دعم مشروعه الإلهي، ومنذ ما قبل بزوغ شمس الوحي في سماء أم القُرى، وعندما كان زوجها لا يزال يسبر أغوار العوالم الخفية وهو في غار حراء في انتظار بروز الوحي، كانت تصعد ذلك الجبل المهيب لتضع بين يديه الطعام وتبقى معه فترة قبل أن تعود أدراجها إلى منزلها الذي غدا المأوى الوحيد لزوجها لاحقًا.
وتوالت اللحظات وازدادت التحديات فدعمت مشروعه بكل ما تملك، حتى آل الأمر بها أن ماتت في شعب أبي طالب في ظل مُقاطعة شاملة، لدرجة أنها ما عادت تملك كفناً ليواري جسدها عند الدفن، فطلب رداء زوجها ليكون كفناً لها.
هذه التضحيات هي التي جعلت السماء تختارها ضمن أفضل نساء الأرض، فيروي كل من البخاري ومسلم في صحيحيهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: “خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة” ويروي الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين”.
لقد أكثر النبي من ذكرها، ففي الصحيح من السيرة (ج: 4 ص: 13) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خديجة”. وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة: “كان النبي إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عزّ وجلّ بها خيراً منها قال: ما أبدلني الله عزّ وجلّ خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي النَّاس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله عزَّ وجلَّ ولدها إذ حرمني أولاد النساء”، والمُذهل في الأمر أنَّه صلى الله عليه وسلم كان قد أخبر ذات مرة بأن حبه إياها تحفة من جانب الله تعالى، ففي خبر آخر يرويه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إني قد رُزقت حبها”، وعلق الإمام النووي على الخبر المار بقوله: “قوله صلى الله عليه وسلم “رُزقتُ حبها” فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت”.
لم تذهب تضحيات سيدة نساء الأرض أدراج الرياح، فما بين أيدينا اليوم من نتاج الوحي يعود إلى جهادها في أصعب أوقات تاريخ هذا الدين وأقساها، وها هي خديجة تتلقى من الذات الإلهية المقدسة تحية ومن مَلَك الوحي أيضاً، وبشارة تتعلق بعاقبة تضحياتها، فقد روى الشيخان بإسنادهما إلى أبي هريرة: “أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب ولا نصب”، والقصب هُنا بمعنى اللؤلؤ المجوف، فبحسب الطبراني عن فاطمة الزهراء قالت حينما رحلت أمها رحلة الموت: “يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: في بيت من قصب. قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت”.
يقول الحافظ ابن حجر: “وفي البيت معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي إليها لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها”.
لا شك أن امرأة حظيت بتحية من الأفق الأعلى، من الحريّ بأهل الأرض أن يدرجوا اسمها ضمن أؤلئك الذين يستحقون أن نقف في ذكرى رحيلهم وقفة إجلال وتأمل وتقدير، فقوائم المجيدين تتسع لمن مجدّتهم السماء كذلك.