مُنذُ مُدة، وربما عندما كانت برفقتي في السفر إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك العُمرة، كلما أنظر إليها تجول في مضمار الأفكار فكرة بلون مختلف..!
هل هذه الفتاة تطوي في نفخة روحها سِّرًا ما؟ ما سِرُ هذه الابتسامة التي تشبه الغموض..؟ وهذا الهدوء الذي يُشبه ما قبيل العاصفة؟
لماذا يراودني هذا الشعور كلما نظرتُ إليها؟
سِرٌ بات أُحجية ولستُ أظن أن الفصول الأربعة من شتاء وربيع وصيف فخريف تكفي لفكها، ربما نحتاج إلى فصل خامس… تُرى ماذا يُسمى وهل يجري على هذه الأرض؟
تحلحلت شفيرةُ “منال” السرية محدثة دويا اجتماعيا أشبه بالفاجعة، وذلك في صبيحة الإثنين الموافق للعشرين من فبراير الحالي، وكانت قبيل ذلك بقليل قد ألمحت لأخيها بأنها راحلة…
وطالما قالت لوالدتها إن “يومي .. قبل يومك”!
وينقطع النفس بلا سابق مُقدمات وينساب ماء الحياة منها في ثوان معدودة! لقد استقلت عربة إلى عالم النور ورحلت وسط دهشة وذهول عائلتها الصغيرة، سُرعان ما تحول إلى ذهول وعدم تصديق وأسى بالغ لجميع الناس الذين عملت في وسطهم بصفتها “إخصائية اجتماعية”.
فمن حَلٍّ لأزمة صعوبات التعلم التي كانت تعصف ببعض الصغار.. إلى التفكير في إيجاد حلول لأطفال فرط الحركة.. إلى التواصل مع زميلاتها في قطاع الصحة النفسية لأجل استقبال والاعتناء بأطفال أوصت آباءهم بزيارتهن لتخليص أطفالهم من بعض المعوقات النفسية.. إلى مساعدة أطفال لاحظت فيهم بوادر مرض التوحد فتواصلت مع ذويهم لمناقشة الموضوع وتقديم الحلول.. إلى عقد اجتماع مغلق بين والدين مطلقين لأجل التحدث معهما عن التحديات التي يواجهها طفلهما في المدرسة.. إلى غير ذلك من الملفات التربوية الشائكة التي كانت تمسح بيدها الحانية عليها فيغدو بلسما يقلب الغلظة الكامنة فيها إلى لطف، ما جعل لسان حال العديد من الأطفال والأمهات كذلك هو: “لم كل هذا الاستعجال يا منال؟!
مهلا.. تريثي قليلا فلا زلت في الثلاثين من العمر..
ثمة ملفات لا تزال في طور الحلول التي كنت تعملين على إيجادها..
هل لأنك نلت منالك… فرحلت؟”
عُشّاق السنوات القليلة من عطائها الثّر بين تأليف لقصائد الفقد، وبين زوّار لقبرها في مطرح ينثرون الورود على التراب الذي لا يزال ينتظر البلاط الأبيض وعليه آية الكرسي إيمانا وتسليما بقضاء الله تعالى وقدره.
وآخرًا- وليس أخيرًا- هدية أهدتها إحدى أمهات أطفال مدرستها لها، بئرُ ماء جارٍ، يصل ثوابها إلى روحها اللطيفة كلما شرب منها شارب.
كنتُ في مجلس عزائها وإذا بأطفال المدرسة يدخلون ليُعزوا أهلها بوفاتها، تحدثت مع بعضهم عن علاقتهم بها، فكانوا يقولون بأن بعض الأمهات كُنَّ يفضلن بقاء أطفالهن في مدرسة خاصة لوجود “منال” بها، لقد كانت بمثابة “أم.. في المدرسة”.
يذكرني هذا الثناء لجهد استثنائي بما كتبه الشاعر الكبير “الأزري” في “لاميته”:
عِش في زمانك ما استطعت نبيلا// واترك ذكرك للرواة جميلا
ولعزك استرخص حياتك إنه // أغلى وإلا غادرتك ذليلا
تُعطي الحياة قيادها لك كلما // صيرتها للمكرمات ذلولا
العزُ مقياس الحياة وضل من // عدّ مقياس الحياة الطولا
قل كيف عاش ولا تقل كم عاش من // جعل الحياة إلى عُلاه سبيلا
ثم إن “الأزري” يختم قصيدته هذه بذكر جهاد أبي الشهداء عصر عاشوراء في سبيل مبادئه فيقول:
لا غرو إن طوت المنية ماجدا // كثُرت محاسنه وعاش قليلا
ما كان للأحرار إلا قدوة // بطلٌ توسد في الطفوف قتيلا
وداعا منال.. وإلى جنان الخلد ونعيم لا زوال له ولا اضمحلال.