أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
خطت البحوث العلمية خطوات رائدة في مجال إنتاج أعضاء بيولوجية، فقد تمَّت محاولة إنتاج أعضاء رئيسية في المختبرات مثل القلب والرئتين والكبد وبعض الأطراف كاليد مثلاً بل تم إنتاج دماغ لجنين بقي هذا الدماغ حيَّا لعدد من الأسابيع إلا أنَّ هذه الأعضاء تمَّ إنتاجها من خلايا حية تُعرف بالخلايا الجذعية، والسؤال الذي نحاول أن نُسلط الضوء عليه في هذه السلسلة من المقالات هو هل ستتمكن البشرية من إنتاج هذه الأعضاء من مركبات كيميائية لا حياة فيها؟
هذا السؤال هو أحد الدوافع الرئيسية التي تدفع بعض المُهتمين للقيام ببحوث حول نشأة الحياة في كوكب الأرض، إذ إنها تهدف في نهاية المطاف إلى إنتاج خلايا حيَّة من مواد كيميائية لا حياة فيها، وبالتالي سيكون بإمكاننا هندسة الخلية الحية وتصميمها بالطرق التي نرغب بها ودراسة تأثيرات العوامل المختلفة عليها بشكل دقيق.
إنَّ إنتاج خلية حية من مواد كيميائية لا حياة فيها تعني من الناحية النظرية أن هذه الخلية لا تحمل أي موروث جيني فهي لم تتولد من كائن حي، وهذا سيجعل دراسة العوامل البيئية على هذه الخلية أوضح وأكثر سهولة.
ولمعرفة الميكنة التي من خلالها يُمكننا القيام بذلك فإنَّ دراسة الظروف الطبيعية التي أدت إلى نشوء الحياة على كوكب الأرض، وبالتالي تهيئة ظروف شبيهة لها في المختبرات حتى يتسنى لنا خلق الحياة من مركبات كيميائية لا حياة فيها، إنه تحد كبير للعلم فلغز الحياة من الألغاز المُعقدة والمليئة بالتحديات ولكن بالمقابل فإنَّ هذا التحدي يضيف نكهة خاصة ودافعا علميا مميزا للغوص فيه وكشف أسراره.
إنَّ الفارق بين البحوث المرتبطة بنشأة الحياة وبين أغلب المواضيع الأخرى التي تتناولها علوم الطبيعة هو أنَّ التركيز في تلك المواضيع على المستقبل وقدرة القوانين الفيزيائية على التنبؤ به من خلال معرفتنا بالمتغيرات المؤثرة في الحاضر فمثلاً عندما نعلم متغيري سرعة الجسم وموقعه فإنِّه بإمكاننا معرفة موقعه في المستقبل، لكننا في موضوع نشأة الحياة نستخدم معرفتنا بالحاضر للكشف عن الماضي السحيق، فبدل التنبؤ بالمستقبل نحاول أن نتصور كيف كان الماضي السحيق قبل أن تتكون أول خلية حيَّة على الكرة الأرضية.
وأول تحد يواجهنا في هذا الصدد هو وضع تعريف علمي للحياة، فما هي الحياة؟!
حاولت البشرية ومنذ أمد بعيد الإجابة على هذا السؤال وكان هناك اعتقاد سائد يمكن تلخيصه بأنَّ الكائنات التي تتصف بـ”الحياة” تمتلك قوة خاصة بها تميزها عن غيرها من المواد التي تفتقر إلى الحياة إنها “قوة الحياة”، وظل هذا الاعتقاد سائداً حتى القرن التاسع عشر.
لكن “قوة الحياة” في القرن التاسع عشر أخذت بعدا علمياً، فكان الاعتقاد بأنَّ قوة الحياة تكمن في هذه المواد التي يتم إنتاجها في الكائنات الحية، فالعمليات الكيميائية التي تحدث في الخلية الحية تؤدي إلى إنتاج مواد كيميائية معينة وهي التي تحتوي على قوة الحياة.
كما كان الاعتقاد بأن هذه المواد الكيميائية التي تنتج في الخلية الحية هي مواد لايُمكن إنتاجها من مواد ميتة لا حياة فيها، فهي مواد كيميائية تختص الكائنات الحياة بإنتاجها وبها تكمن “قوة الحياة” ومن هنا فقد تم تقسيم الكيمياء إلى كيمياء عضوية وكيمياء غير عضوية.
ولكن هذا الاعتقاد واجه تحديات كبيرة وبدأ يضعف مع تطور العلوم الطبيعية إذ تمكن العلماء بعد ذلك من تصنيع مواد عضوية كاليوريا مثلاً من مواد غير عضوية، بل استطاع العلماء أن يقوموا بعمليات كيميائية كان يعتقد أنها تحدث فقط في الكائنات الحية مثل عملية التخمر، التي كان يعتقد سابقاً أنها تحدث فقط في الكائنات الحية ولكن بعض العلماء تمكنوا من القيام بعملية التخمر في المختبرات وذلك بعد أن تم استخلاص البروتين المسؤول عن التخمر من الخلية وتمَّ وضعه في بيئة كيميائية مختلفة حافظت على خصائصه الفيزيائية والكيميائية وقام البروتين بعملية التخمر بكفاءة عالية.
وبعد هذه التطورات العلمية بدأ مفهوم “قوة الحياة” يُواجه تحديات كبيرة، وبدأ البحث العلمي يحاول أن يجد فرقاً علمياً بين أنشطة مميزة يقوم بها الكائن الحي والمادة التي لا حياة فيها.
وإذا كان القرن العشرين شهد ثورات علمية ضخمة في مجال علم الطبيعة (الفيزياء)، فإنَّ ما لا يُدركه الكثيرون أنَّ علم البحث عن تعريف الحياة وكيف نشأت؟ شهد هو الآخر تطورات وقفزات هائلة.
ففي عام 1920 ميلادية قام كل من العالمين الروسي ألكسندر أوبارين والبريطاني هالدن بوضع فرضية ذات أهمية كبرى وهذه الفرضية تفترض أنَّ الحياة نشأت من مركبات كيميائية لا حياة فيها.
وعلى الرغم من أن هذه الفرضية أثارت جدلاً كبيراً في الوسط العلمي آنذاك إلا أنها شكلت عصب الحياة لعلوم الحياة ونشأتها في سبعينيات القرن الماضي واستمرت إلى يومنا هذا.
إن النظريات التي تثير جدلاً واسعاً والتي قد لا نتفق معها لا يعني أنها وبالضرورة تضر بتطور العلم بل على العكس فبعض هذه النظريات من جانب آخر تفتح آفاقاً جديدة كما كان الحال مع هذه النظرية، فلقد أثرت البشرية بنتاج علمي خصب لم تشهد له نظير قط في تاريخها الممتد وسيشهد المستقبل القريب في مجال علوم الحياة تطورا مذهلاً فما كنَّا نشاهده في أفلام الخيال العلمي سيصبح واقعاً نعايشه ونتعايش معه.
**”سلسلة علمية تحاول إلقاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة والتي مازال العلم يسبر غورها ويحاول جاهدًا كشف مكنون أسرارها… كيف نشأت الحياة؟”
مصادر للاستزادة في المعرفة:
1- “مقابلة مع دماغك في مختبر التجريب”، حيدر بن أحمد اللواتي: جريدة الرؤية 4 /11 / 2019.
2- Origin of Life, What Everyone Needs to Know – David W. Deamer