تحدثنا عن أنَّ الظاهرة الطبيعية التي نرصدها بحواسنا أو بامتداداتها هي حقائق علمية لا يُشك في صحتها، وفي هذه المقالة سنُسلط مزيدًا من الضوء حول مفهوم الحقائق العلمية.. فمثلًا عندما يتحدث علماء الطبيعة عن الذرة الكونية وأن الكون بدأ بانفجار عظيم، أو أن هناك سلفًا مُشتركًا للكائنات الحية، فهل هذه الظواهر العلمية هي حقائق علمية مُسلَّمٌ بها؟ إذ الملاحظ هنا أن هذه الظواهر العلمية مادية، ومن الناحية النظرية يمكن رصدها بالحواس، فهل يُمكن عدها حقائق علمية؟!
التحدي في الإيمان بأن هذه الظواهر العلمية هي حقائق علمية، يكمن في عدم إمكانية إخضاعها للتجربة أو الرصد اليوم، فهي أحداث فريدة من نوعها وظواهر طبيعية لا يُمكن لها أن تتكرر، فنحن لا نستطيع أن نُكرر ظاهرة نشأة الحياة في المُختبر ولا نستطيع أن نُكرر ظاهرة نشوء الكون؛ فلهذه الظواهر الطبيعية بُعدان: بُعدٌ علمي يتمثل في كونها ظاهرة طبيعية، وبُعدٌ تاريخي يتمثل في كونها حدثت في زمن سابق ولا يُمكن لنا تكرارها، ولذا فلا يصح أن نُعِدُ هذه الظواهر الطبيعية حقائق علمية كحقيقة كُرويَّة الأرض مثلًا أو دورانها حول الشمس، فهذه حقائق علمية لا يُمكن لها أن تتغير. وأما الظواهر العلمية التاريخية فنعبِّر عنها أيضًا بالنظرية العلمية، وهذه النظريات العلمية لها أدلة داعمة؛ بل بعضها يكاد يقترب من الحقيقة العلمية لقوة الأدلة الداعمة، ولذا فمن غير الصحيح أن نُنزِل من شأنها ونُعبِّر عنها بأنها شكوك ولا يُمكن الاعتماد عليها، ولكن بالمقابل لا يُمكن أن نرفع من قدرها ونعدها حقائق علمية لأنها يمكن أن تتغير في المستقبل.
ومن هنا.. يُمكننا تقسيم الظواهر العلمية إلى صنفين؛ الصنف الأول: يمكن الكشف عنه ورصده في كل زمان، وهذا الصنف نطلق عليه “حقائق علمية”. وهناك صنف آخر من الظواهر الطبيعية وقعت في التاريخ ولا يمكن لنا أن نعيدها في المختبر؛ فهي ظواهر طبيعية تاريخية، وهذه لا يمكن أن تتحول إلى حقائق علمية، نعم يمكننا أن نصل فيها إلى مستوى عالٍ من المصداقية بسبب الأدلة الداعمة لها، لكن ولأنها لا تخضع للتجربة والرصد فلا يُمكن الجزم بصحتها وعدها حقائق علمية.
ولذلك تبرُز أهمية التجربة في المنهج العلمي والتحقق من الحقيقة العلمية؛ بل نستطيع القول إنها العمود الفقري للمنهج العلمي، وذلك كونها العماد في الكشف عن الحقائق العلمية، ومن هنا فإن من أبرز الأمور في التجارب أن تكون نتائجها موضوعية وتعكس الواقع ولا تعتمد على الظروف المحيطة، ولا على العالم الذي يقوم بالتجربة. لهذا يولي علماء الطبيعة أهمية كبيرة لتكرار التجربة وإعادتها باستخدام أدوات قياس مختلفة من قبل عدد من العلماء في مختبرات بحثية مختلفة، وذلك للتحقق من البيانات التي تنتج من التجارب. وتُعد النتائج موضوعية وصادقة إذا تكررت التجربة وأنتجت نفس النتائج، مع هامش الخطأ المتوقع من التجارب بناءً على الحسابات الإحصائية. أما التجارب التي لا يُمكن تكرارها فلا قيمة لها؛ فالتجربة العلمية إما أن تكون صادقة وإما أن تُرمى بعرض الحائط، فلا توجد تجارب مشكوك في صحتها أو تجارب “ظنيَّة” يُظن أن نتائجها صحيحة؛ فالتجارب العلمية التي يتم اعتمادها لا بُد وأن تكون حقائق علمية لا يشك بصحتها.
وهذا هو مَكمن قوة علوم الطبيعة وتميُّزها عن كثير من العلوم… فالقاعدة -التجربة العلمية- التي ينطلق منها العلماء في تفسيرهم قائمة على حقائق علمية متفق عليها وليس على تجارب محتملة الصحة؛ فالمؤرخ مثلًا عندما يقوم بتحليل حادثة تاريخية معينة، فإنه قد يستند في تحليله على روايات تاريخية لا يتفق المؤرخون على صحتها، ولذا فقد تجد مؤرخًا آخر يرفض التحليل الذي طرحه المؤرخ الأول؛ لأنه استند على روايات تاريخية ضعيفة من وجهة نظر المؤرخ الثاني. أما نتائج التجربة العلمية، فلا يختلف عليها إثنان من العلماء؛ فالتجربة التي يُشك في صحتها تخضع للتكرار، فإن أنتجت ذات النتائج مع هامش الخطأ المُتوقع من التجارب بناءً على الحسابات الإحصائية، أُخذ بها.. وإلّا لا يُحتكم إليها ولا تُعد حقيقة علمية، ولذا لا يحق لأي عالم من علماء الطبيعة الاعتماد عليها.
لكن من المُهم جدًا في علوم الطبيعة وغيرها من العلوم، التفريق بين نتائج التجربة والتفسير المطروح للتجربة، وهذا ما سنتحدث عنه في المقالة المُقبلة.
سلسلة من المقالات العلمية تتناول علوم الطبيعة، وتجيب على أسئلة ما إذا كانت هذه العلوم مجموعة من الحقائق التي لا يعتريها شك ولا شبهة، أم أنها محض ظنون لا يقر لها قرار وتتغير بتغير الزمان؟
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس