لا يختلف اثنان على أنَّ عملية التفكير هي من أهم وظائف العقل، فالتفكير مهارة عقلية بامتياز، فالعقل قد يستفيد من الحواس في عملية التفكير، لكنه ينفرد بهذا النشاط بين بقية أجهزة الجسم.
لكنَّ السؤال الذي نريد أن نحوم حوله اليوم هو العلاقة بين التفكير والنقد، فالملاحظ أن أغلب المفكرين يجنحون إلى النقد بجانبه السلبي، وأعني إظهار نقاط الضعف في الفكرة أو الظاهرة المنتقدة، وهو سلوك جلب لهم الكثير من العداوات والخصومات، فما هي العلاقة بين التفكير والنقد؟ وهل يمكن للمفكر أن لا يكون ناقدا بجانبه السلبي كما أوضحنا ذلك؟!
للإجابة عن التساؤل لابد لنا أن نسلط الضوء على السبب وراء حاجة الإنسان إلى التفكير، فما الذي يدفعه إلى التفكير في أمر ما؟
إنَّ أحد أهم الأسباب التي تدعوه للتفكير هو محاولته للتغيير، سواء كان التغيير لفكرة ما أو لظاهرة اجتماعية كانت أو اقتصادية أو في مجال آخر؛ فالتفكير ينشأ من الشعور بالحاجة للتغيير، وبغض النظر عن أسباب هذا الشعور، فإن هذا الأمر يمكن ملاحظته بسهولة، فلا أحد يفكر مثلا في المسلمات الرياضية مثل “اثنان أكبر من واحد”، وهكذا المؤمن الموقن بوجود إله خالق للكون، لا يفكر في إثبات وجوده لأنها مُسلَّمة عنده غير قابلة للتغيير، إلا إذا حدث أمر ما، جعله يغيِّر من قناعته أو أدى به للتشكيك في ذلك، حينها يبدأ بالتفكير سعيا لتغيير حالة الشك التي اعترته إلى حالة من الاطمئنان.
ولأنَّ عادة الإنسان وفطرته تدعوه للتغيير إلى ما هو أفضل؛ فلا أحد يفكر في التغيير إلى وضع أسوأ مما هو عليه، ويقتضي ذلك بالضرورة محاولة الكشف عن سلبيات الوضع الحالي ونقاط الضعف فيه؛ لأن عملية التغيير تستدعي أن يكشف عن عيوب ما هو موجودة حاليا سواء كانت فكرة تدور في رأسه أو ظاهرة معينة؛ وبالتالي لابد من السعي لتغييره.
وهذا يوصلنا لنتيجة مفادها أنَّ تنامي ظاهرة النقد هي مؤشر لتنامي ظاهرة التفكير في المجتمعات عموما؛ لذا فانتشارها لا يجب أن ينظر لها كظاهرة سلبية، بل يجب توجيهها بما يصب في نهاية المطاف لصالح تطور المجتمعات وتقدمها.
كما أنَّ علينا أنْ نُلاحظ أيضا أن تنامي ظاهرة النقد في المجتمعات دون طرح حلول جادة للظاهرة أو الفكرة المنتقدة هي حالة متوقعة؛ لأن قلة من الناقدين تكون لديهم القدرة على مواصلة التفكير المنظم والذي يفضي إلى حلول بناءة ومفيدة لتغيير الظاهرة أو الفكرة المنتقدة، فالتفكير المنظم يحتاج لممارسة للمنهج العلمي وسيطرة على العقل بحيث يجعله يركز في تلك الفكرة أو الظاهرة، ولا يخرج عنها يمينا وشمالا وهذا مما لم يعتد عليه الكثيرون، فتجدهم أثناء تفكيرهم ينتقلون من أمر إلى آخر ومن فكرة إلى أخرى.
وقد تكون هناك أسباب أخرى وراء الوقوف عند نقد الفكرة أو الظاهرة، فقد يغرق بعضهم في عملية النقد وتحليلها؛ وذلك لأنها منطقة الراحة النفسية لديه، فقدرته وممارسته المستمرة للنقد تجعله لا يتخلى عنها بسهولة فيدور في حلقة مفرغة فينتقل من نقد فكرة إلى أخرى.
وهناك من يتوقف عند عملية النقد ولا يتجرأ على تجاوزها رغم وجود حلول لديه، لكنه يخشى من عواقب ما سيطرحه وردة فعل المجتمع؛ فالحلول التي في جعبته هي حلول خارج الصندوق، وهو يدرك تماما عواقب التفكير خارج الصندوق وخاصة في المجتمعات المحافظة والتي يُضيق فيها هامش الحريات كثيرا؛ فالتاريخ القديم منه والحديث حاضر في ذهنه يراه بعين بصيرته، فالعنف والإقصاء والحط من منزلته هو ما سيؤول له الأمر، لذا تجده يدور في دائرة النقد المباح.
لذا؛ فإذا أردنا أن يخرج المفكر من حالة النقد وعدم الاكتفاء بها، فعلينا أن نُفسح مجالا واسعا للحريات الفكرية ومناقشة الفكرة دون النيل من أصحابها.
وقد يشكل البعض على مفهوم الحرية الفكرية بأن ذلك سيعرض المجتمعات إلى أفكار سيئة ومفاهيم خاطئة وهذا أمر وإن بدا صحيحا إلا أنَّ المتتبِّع سيلاحظ أنَّ تطور المجتمعات مرهون بمساحة الحريات الفكرية في أغلب الحالات، وكأن ثمن التطور الذي تدفعه المجتمعات هو إيجاد مساحة كبيرة للحرية الفكرية؛ لأن الأفكار المبدعة والرائعة لا تتولد من فراغ، بل لابد من عصف ذهني تقوم به المجتمعات تطرح فيها مختلف الأفكار: الغث منها والسمين، وفي نهاية المطاف يبقى للمجتمع حرية الاختيار بين الأفكار التي تنهض به وتلك التي ترجعه الى الوراء، وهنا تبرز أهمية بناء الفرد في المجتمع على التفكير الناقد والسليم حتى يستطيع أن يميز بين الأفكار ويقيمها تقييما موضوعيا.
لذلك نقول: ليست الإشكالية في الناقد والنقد دائما، وليس صحيحاً أنْ نُلقي اللوم عليه وعلى نظرته السلبية، فلربما كان المجتمع نفسه سبباً رئيسيًا وراء خلق شخصية ناقدة لا تتجاوز النقد لتطرح حلولا للفكرة أو الظاهرة المنتقدة، فهي التي وضعت له خطوطا حمراء ولم تسمح له بتجاوز حدود النقد المباح.
كلية العلوم – جامعة السلطان قابوس *