محمد بن رضا اللواتي
الساعة كانت تُشير إلى الخامسة مساء اليوم الرابع من أيام معرض مسقط الدولي للكتاب، عندما كنتُ أجر قدماي جرًا نحو قاعة “ابن دُريد” لحضور المؤتمر الصحفي الذي يعقده “جان بول سارتر” حول أسباب عدم قبوله لجائزة “نوبل” التي نالها في أكتوبر من عام 1964، هذا بعد حوالي نصف ساعة من الآن.
وبينما كنتُ أتأكد من وجود شارة “جريدة الرؤية” حول رقبتي، استوقفني رجل ليسألني عن مكان انعقاد المؤتمر الصحفي، فطلبت منه أن يُرافقني حيث إني متوجه أيضًا إلى القاعة لحضوره.
شكرني وانطلقنا بين أروقة المعرض نبحث عن مصعد يقلنا إلى الطابق الثاني، عندما تسمر الرجل الذي يُصاحبني، أمام تجمع لمجموعة من فتيات إحدى المدارس كما بدا من ملابسهن. لقد كنَّ يستمعن لزميلة لهن تقرأ من صفحات كتاب متوسط الحجم: “يُطلب من السجين المُثقف أن يُمثل دور المتعاون مع الفرنسيين، ثم يُطلب إليه أن يكتب عن أنَّ الاستعمار يقوم على أسس صحيحة، ثم يُطلب إليه أن يتناول حجج رفض الجزائر للاستعمار الفرنسي بالتفنيد، حتى يتمكن في ذهنه مفهوم: الجزائر ليست أمة، ولم تكن أمة، ولن تكون في يوم من الأيام أمة، وليس هناك شعب فلسطي…..عفوا…جزائري”!
بدا على الرجل ما يشبه الصدمة..
نظر إليَّ وهو يقول: إنها تقرأ من كتابي…!
إذن لقد صدر الكتاب أخيرًا؟ لقد كانت “اللوكيميا” قد ابتلعتني عام 1961، فلم ألمسه مطبوعًا.
هل لي بأن أنصت لدقائق..؟
نظرتُ إلى ساعتي وهمست موافقاً..
استرسلت الفتاة تقرأ بينما كنت اختلس النظر إلى غلاف الكتاب..
“أما السجين غير المُثقف، فعليه أن يعترف بأنَّه ليس ممن يعادون الاستعمار الفرنسي، وعليه أن يعترف بأنَّ مستقبل فلسطين إسرائيلي….عفوا! مستقبل الجزائر فرنسي، وبدون فرنسا تعود الجزائر إلى القرون الوسطى”!
“هكذا أيتها الطالبات، تقوم الحركات الاستعمارية بغسيل أدمغة الأمم التي تستعمرها”.
لقد تمكنتُ من رؤية العنوان..
إنِّه “معذبو الأرض” لمؤلفه الفرنسي الأسود “فرانز فانون”..
نهض “فانون” فتوجهنا إلى القاعة وهو منهمك في الحديث معي عن كتابه هذا الذي ألفه وهو على فراش المرض، ضد الإمبريالية والاستعمار الأوروبي، يحث الشعوب المضطهدة فيه على مقاومة الاستعمار، وأن هذه المُقاومة شرعية تمامًا لأنها تنطلق لأجل الأرض التي تؤمن لهم خبزهم كما تؤمن لهم كرامتهم.
وعندما خرجنا من المصعد وقد لاحت القاعة لنا، سألني عن سبب الخطأ الذي ارتكبته الفتاة فخلطت الجزائر التي كان يحكي “فانون” عن تجربة استعمارها من قبل فرنسا، بفلسطين، كما وخلطت فرنسا بإسرائيل…
وددتُ أن أتحدث معه قليلاً عن مؤتمر “وارسو”.. القاعة كانت أنيقة، على صغرها، فهي تتسع لحوالي 80 شخصاً، إلا أنَّ الحضور لم يتجاوز العشرين. الجميع كانوا يحتلون الصدارة باستثناء رجل.. لقد كان في آخر القاعة.. ولوحده! اخترت لي مقعدا في وسط القاعة، بينما جلس “فانون” في الصدارة.
كان “سارتر” بادي الشحوب، منهمكاً في تفكير عميق، وغليونه لا يُفارق شفتيه، وبجواره على المنصة جلس رجل يتأمل الأوراق التي بين يديه. مرت دقائق سريعة فنهضت امرأة تُرحب بالحضور وتشكرهم على حضور المؤتمر، وبعد بضع كلمات شديدة التكرار في هكذا مُناسبات، وضعت مكبر الصوت اليدوي بين يدي الرجل الذي كان يجلس بجوار “سارتر” والذي عرف نفسه بأنّه “أندريه غيغو” المتخصص في فلسفة “جان” والمكلف من قبله بأن يحدث الصحفيين عن أسباب رفضه لاستلام جائزته.
“غيغو” اختصر حديثه في نقطتين هما اللتان منعتا “راسل” من أن يقبل بالجائزة:
الأولى: أن الجوائز في نظر “جان” ليست إلا “قُبلة للموت”!
الثانية: أن “جان” ينتقد كل أشكال المؤسسات ويعدها ميتة، فكيف سيقبل من أحدها جائزة؟ هذا يخالف مبادئه.
فُسح المجال لأسئلة الحضور، وكان “فانون” قد رفع ذراعه كاملة بحيث لم يكن ممكناً تجاوزه، وما أن التقط مكبر الصوت اليدوي حتى قام يذكر “سارتر” بمقولته الشهيرة “عارنا في الجزائر”، ووقفته مع المضطهدين في الأرض، ثم انسلاخه عن مبادئه بإعلانه أنَّ “إسرائيل لها الحق في الوجود ويجب أن تبقى”.
وبينما كانت نبرة صوت “فانون” ترتفع، كنت قد تمكنتُ وعبر “جوجل” الذي لا يخذل أحدًا في وقت الضيق، أن أحشد معلومات عديدة عن هذا الفرنسي الأسود الذي حارب النازيين في الحرب العالمية الثانية، ثم عمل طبيباً عسكريًا في الجزائر إبان استعمار فرنسا لها، إلى أن انخرط مع تيار مقاومة الاستعمار سرًا.
أذهلني وصفه الدقيق للكيفية التي غيرت بها الدول الأوروبية الاستعمار المباشر ذا الكلفة العالية باستعمار محلي بكُلفة أقل، تمارسه نخب ارتبطت مصالحها بمصالح الدول المُستعمرة، وكانت آخر كلمة سمعتها يقول: “في تقديمك لكتابي، استهزأت بأوروبا التي ترتكب الجريمة وتضع الضحية في قفص الاتهام، فكيف إذن أغمضت الأجفان عمَّا ترتكبه الصهيونية من جرائم في حق البلد السليب؟”.
بعد ساعة ونصف، خلت القاعة من الجميع، باستثناء الرجل الذي جلس آخر المكان.
تقدمت نحوه وأنا أمد يدي لمُصافحته مستفسرا عن سبب سكوته الطويل وعدم توجيهه أية سؤال “لسارتر”، صافحني وهو يهم بالوقوف قائلاً بأن “سارتر” لم يكن بالذي سيُجيب إن سأله، فلقد سبق وأن سألته عن سبب تأييده إسرائيل في احتلالها لفلسطين، إلا أنَّ “سارتر” لم يجب، بل لم يتفوه ببنت شفة!
عندها.. وقع شرخ في ذاكرتي فانهمرت منه مضامين كتابة “إدوارد سعيد” وقائع ذلك اللقاء كما نظمته مجلة “الأزمنة الحديثة” عن السلام في الشرق الأوسط عام 1979 ونشرته مجلة الدراسات الفلسطينية في عددها رقم 104 خريف 2012.
لقد تذكرت الوقائع كلها، وكيف أن الجلسة انتقلت لدواعٍ أمنية إلى منزل “ميشال فوكو” في باريس، بحضور “يهوشعفاط” الخبير الإسرائيلي الأول بالعقل العربي آنذاك، وما لم تسعفني به ذاكرتي هي، الأسباب التي عزا إليها “إدوارد” موقف “سارتر” ذاك.
سألت “إدوارد” ما إذا كان لا يزال يتذكرها، فرد يقول بأنه يحتفظ بها بين رسائله على جواله..
انهمك في البحث عنها…
قال وعيناه بدتا غائرتين من شدة البحث أنّه يذكر منها واحدا حاليا وهو “إسرائيل”!
إلا أنَّ البحث أعياه ولم يتمكن من العثور على الرسالة التي تحتوي على بقية الأسباب الثلاثة. تُرى هل لذلك دلالة ما؟
كما تضيع الحقوق بمرور الزمن.. فلقد ضاعت “الأسباب” من بين رسائله! ولكن، أليس في السبب الذي كان يتذكره كفاية؟
***
يا له من معرض! إنه يعجُ بخطابات الأموات عبر مؤلفاتهم، أكثر مما يعج بخطابات الأحياء!
المصدر: الرؤية