في حفل التَّخرج، لم يكن الحضور ليتصور أنَّ الذي ألقى الخطاب بالنيابة عن الطلبة قبل حين كان شابًا مصابًا بمرض “التوحد”!
لقد تمَّ تشخيص إصابته وهو طفل، وكان القدر قد كتب له إما أن يظل غير متعلمٍ، صامتا أغلب الوقت، عاجزا عن النطق بجملة واحدة مُفيدة، وبالتالي عالة على أسرته طوال عمره، أو ربما يذهب ضحية دهس سيارة أو سقوط في بئر القرية أو غرق في وادٍ- كما حصل ذلك بالفعل مع مجموعة من أطفال التوحد- وإما أن يتحول إلى هذه الهيئة التي تشاهدونها اليوم، في آخر سنته الدراسية وقد اختاره الطلبة ليُلقي بالنيابة عنهم خطاب التخرج.
هذان المساران، اللاعب الأبرز في اختيار الأفضل بينهما يعود إلى وعي الأسرة بطبيعة مرض التوحد من جانب، وإصرار تلك الأسرة على التغلب على التحديات بل وتحويلها إلى فرص، عبر توفير متطلبات النجاح، وأبرز تلك المتطلبات توفير حق التعليم لطفل التوحد.
لكن لا يبدو أنَّ هذا الطريق مُعبدٌ لأغلب الأسر التي تحتضن طفلًا توحديًا! لماذا؟
الندوة التي أقامتها منصة “عيون” الرقمية عن واقع التوحد في سلطنة عُمان بين التحديات والحلول قد أجابت عن هذا السؤال، والإجابة تمثلت في التالي: إننا إلى يومنا هذا لا نزال نفتقر إلى “سجل وطني” لحالات التوحد على غرار حالات الإصابة “بالسرطان” لذلك لا نملك أرقامًا دقيقة للمصابين من الأطفال، وهذا مؤداه عدم بلوغ الاهتمام بهم الدرجة المطلوبة.
عندما يتم اكتشاف مصاب بمرض عوز المناعة المكتسبة، يزور فريق مختص المصاب، لكي يقوم بتثقيفه كيف يمضي بحياته بشكل إيجابي، ويحفظ صحة من حوله، ويُطمئنه أنه يحق له الاحتفاظ بوظيفته والاستمرار في عمله، في حين أن هذه الحزمة من الاهتمامات غائبة بالمرة بالنسبة للمصاب بالتوحد، علمًا بأنَّ ما ننفقه في توعية وتعليم طفل التوحد ليس عبئًا على الميزانية وإنما هو استثمار في أطفال من الممكن أن يكونوا عقولًا كبيرة في المسيرة التنموية للبلد، هذا الذي نادت به الندوة بصوت مرتفع.
اجتمعت كلمات جميع المشاركين في الندوة حول نقطة واحدة وهي أن الملف الأصعب في جعل التوحد محنة وليس منحة، هو ملف التعليم. إنه يفوق ملف تشخيص التوحد صعوبة خصوصاً وبعد أن ربطت وزارة الصحة- كخطوة نوعية- جهود تشخيص التوحد ببرامج تحصين الأطفال.
وطالبت الندوة أن تصبح المدارس جاهزة لاستقبال الطفل التوحدي على غرار جهوزيتها لاستقبال المصاب بمتلازمة داون، مع زيادة عدد المقاعد المخصصة لهم، على أن يتم اختيار الطفل وفق معايير دقيقة.
صحيح فعلًا أن ملف تعليم الطفل التوحدي أصعب الملفات، ولكن لا يجدر به أن يكون أشد الملفات إحباطًا، فلقد ألقت الندوة ضوءًا على تجارب ناجحة جدًا لدول تمكنت من التغلب على هذه الأزمة، وكان سر نجاحها يتمثل في إيمانها بالقضية، وأن الطفل التوحدي بعد تشخيص مرضه لا ينبغي أن يُترك مُهملًا، لا سيما وأنه من المتوقع أن تبلغ حالات الإصابة بالتوحد في السلطنة عام 2030 قرابة 23 ألف حالة، وثلث هؤلاء يمتلكون قابلية النبوغ والالتحاق بالدراسة الأكاديمية بما فيها العليا.
لقد كانت خطوة ابتعاث 15 أسرة عُمانية إلى الولايات المتحدة للاستفادة من برنامج “SUN RISE” من قبل وزارة التنمية الاجتماعية والجمعية العمانية للتوحد موفقة جدًا، فأولئك المشاركون في البرنامج باتوا مؤهلين بشكل رئع لأداء مسؤولياتهم تجاه طفل التوحد، والمطلوب توفير شبيه بهذا البرنامج محليًا؛ لأجل تعميم الفائدة وتحويل كل بيت يضم طفلًا توحديًا إلى مركز تأهيل.