تعتبر الحواس التي يمتلكها الكائن الحي وسيلته الوحيدة للكشف عن الواقع الخارجي له؛ لذا فصورة الواقع الخارجي إنما تتكون بناءً على الطرق التي يتم بها استقبال المعلومات عبر الحواس الخمسة عند الإنسان وعند الكائنات الأخرى. والمُلاحَظ أنَّ الدراسات العلمية الحديثة رصدت اختلافات كبيرة وواسعة لدى مختلف الكائنات الحية في كيفية رصدهم للواقع الخارجي. ونتيجة لذلك، فعالمنا وواقعنا الذي نعيشه يختلف تماماً عن واقع تلك الكائنات، فنحن وإن كنَّا نشترك في المكان والزمان لكننا نرى الواقع مختلفا تماما!
وفي هذا المقال، سنتحدث عن كيف تتفاعل حاسة التذوق عند الكائنات الحية بصور مختلفة تمامًا عن بعضها، وبذلك تخلق لكل كائن حي واقعًا خاصًا به.
إنَّ مَيْكَنة عمل هذه الحواس تعتمد على المركبات الكيميائية الموجودة في حواسنا، ونطلق عليها المستقبلات الكيميائية، وإحدى النظريات التي تفسر عمل أغلب هذه المستقبلات تفسرها على ما يعرف بمبدأ القفل والمفتاح؛ فهذه المستقبلات لها شكل ثلاثي الأبعاد، فلكي نحس بالمادة الكيميائية فلابد للشكل الثلاثي للمركب الكيميائي أن يكون متوافقا مع شكل المستقبلات تماما، كما أن شكل المفتاح المناسب والذي يمكنه أن يفتح قفل الباب يجب أن يكون متناسبا مع شكل فتحة القفل المخصصة والموجودة في الباب؛ فإذا كان المركب مناسبًا مع مستقبلات الطعم الحلو (مثلا) الموجود في اللسان، فإننا سوف نشعر بحلاوة الطعم، لهذا يمكن لأي مركب آخر حتى ولو اختلف كليا من حيث الصيغة الكيميائية مع السكر يولد إحساسا بالطعم الحلو إن كان شكله الفيزيائي مناسبًا للمستقبلات المخصصة لذلك، لكننا إذا انتقلنا إلى عالم الحيوان فالأمر مختلف تماما؛ فبعض الحيوانات كالقطط والنمور والأسود لا تملك مستقبلات مخصصة للطعم الحلو الذي نحسه ونحن نتناول قطعة السكر؛ لذا فهي لا تملك إحساسًا بالطعم الحلو الذي نحسه نحن؛ فالسكر عند تلك الحيوانات لا يعد حلو المذاق!
ولا يقتصر الأمر على القط والنمور؛ فهناك نوع من الخفافيش تختلف عن غيرها بأنها تعيش على امتصاص دم الحيوانات الثديية، وهذا الصنف من الخفافيش لا يحس إطلاقاً بطعم المرارة أو الحلاوة، فالطعام عنده إما حامض أو مالح، ويفسر البعض ذلك بأنه لا يحتاج إلى الإحساس بالمرارة أو الحلاوة.
كما الإحساس بالحرارة الناتجة من أكل الفلفل الحار ينفرد بها الإنسان؛ فعلى الرغم من أن الطيور تقبل على أكل الفلفل، إلا أنها لا تشعر بحرارته لأنها تفتقر إلى مستقبلات الحرارة الموجودة عند الإنسان، فالببغاء مثلاً يشعر بحلاوة طعم الفلفل الحار لا حرارته.
ونجد أنَّ الحيتان والدلافين وهما من الثدييات لكنهما يتذوقان الطعم المالح فقط، فهي تفتقر إلى المذاقات الأخرى التي يشعر بها البشر كالمذاق الحلو، والحامض، والمر.
ومن هنا؛ فالسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا نختلف كل هذا الاختلاف في تقييمنا للواقع الخارجي؟ فهل السكر حلو الطعم فعلا؟ وهل الفلفل حار واقعا؟ وإذا كانا كذلك فلماذا تختلف الكائنات الحية في رصدها لذلك؟!
ومن هنا، طرح بعض العلماء نظرية مفادها أنَّ الدماغ لا يهدف لمعرفة الواقع الخارجي على حقيقته، بل لا سبيل له لذلك؛ لذا فما يهتم به الدماغ أساسا هو الحفاظ على الكائن الحي وإبعاده عن أي خطر يواجهه فهو يهتم فقط بتلك المعلومات التي تؤدي له هذا الغرض ويخلق واقعه بناء عليها؛ فمن الطبيعي عندئذ أن نجد التباين بين الكائنات الحية المختلفة فما يشكل تهديدا للإنسان ربما لا يشكل تهديدا للكلب مثلا، لذا فدماغ الكلب يتحسس الواقع بما يحافظ على حياته بينما يتحسس الدماغ البشري تلك المعلومات التي تحافظ على حياته، فكل يرى الواقع من زاوية نظر مختلفة.
وبذلك؛ يُمكننا تفسير الفوارق في المذاقات المختلفة عند الكائنات الحية؛ فالدماغ حاول أن يطور تلك المذاقات المختلفة وأضفاها إلى المأكولات؛ وذلك حسب احتياج الجسم لها، فإن كانت تمد الجسم بالطاقة مثلا فهو يضفي عليها رائحة جيدة مثل رائحة المخبوزات مثلا أو ربما يضفي على بعضها طعما حلوا كالسكريات، ولكن لأن بعض الحيوانات كالقطط مثلا تأخذ طاقتها من اللحوم ولا تأخذها من السكر؛ لذلك فلا معنى لإضافة الطعم الحلو على السكر فهو لا يعد مصدرا للطاقة لهذه القطط، بينما تمتلك هذه الحيوانات مستقبلات خاصة لتذوق اللحوم وتستطيع أن تشم رائحته من مسافات طويلة لكونها مصدر الطاقة لها. وبالمقابل، فإن المواد التي قد تسبب ضررا للإنسان يضفي عليها طعم المرارة؛ وذلك للتحذير أثناء تناولها وعدم الاكثار منها.
وهكذا الحال مع الملوحة والعذوبة؛ فالماء المالح يدل على أنه مُضِر بالجسم، ولولا حاسة التذوق هذه (الملوحة) لشرب الإنسان من ماء البحر دون أن يشعر، ولذا فالملوحة هي ذائقة تشعر الإنسان بأن عليه تجنب الإكثار من هذه المادة، بينما الأطعمة الحامضة تشير إلى فسادها ولذا فهي ترسل تحذيرات للإنسان على التحقق من صلاحيتها.
كما تُشير الدراسات إلى أنَّ الأطفال والرُّضع لا يقبلون على تناول الأطعمة ذات المذاق المر ويقبلون على الأطعمة ذات المذاق الحلو وهم -أي الأطفال والرضع- أقل تأثرا بالمحيط في بدايات سني حياتهم وهذا ما يدعم هذه النظرية، وتواجه هذه النظرية بعض التحديات، فالعلاقة بين السمية وبين المرارة على سبيل المثال علاقة ليست واضحة تمامًا، فحوالي ٦٠ ٪ فقط من الكيمياويات ذات الطعم المر وجدت سامة، ولذا فإنَّ الأدلة العلمية ليست ناهضة بما فيه الكفاية لدعم هذه النظرية بصورة كاملة ولابد من المزيد من الدعم التجريبي، ولكنها نظرية جديرة بالتأمل فيها.
*كلية العلوم – جامعة السلطان قابوس