ربما من إيجابيات كورونا وانتشارها أنَّها نبهتنا إلى أحد الحواس التي نادرًا ما يتم التطرق إليها؛ وهي حاسة الشم، فهي من الحواس الأقل اهتمامًا لدينا، فالبشر عمومًا يعتمدون وبشكل أساسي على ما يعرف بالحواس الفيزيائية لرصد الواقع المحيط ونعني بالحواس الفيزيائية حاستي الإبصار والسمع، أما حاسة الشم والذوق فتعدان من الحواس الكيميائية.
وتتميز حاسة الشم عن حاسة التذوق؛ حيث إنها ترصد الواقع الخارجي من على بعد ودون تماس مباشر معه، بينما نجد أن حاستي التذوق تعجز عن ذلك إذ إنها لا تتفاعل مع الواقع الخارجي إلا عبر التماس المباشر معه. ويُظن أن السبب الذي يجعل الإنسان يعتمد بشكل أساسي على حاسة الإبصار في مراقبة المحيط من حوله هو بنيته الجسمية واستقامته التي تسمح له بذلك، وبالمقابل فإن مدى الرؤية عند أغلب الحيوانات التي تمشي على يديها ورجليها ولا تسير مستقيمة كالإنسان ضيق؛ إذ إن حاسة الإبصار عندها عادة لا تمتد إلى أفق بعيد؛ بل باتجاه الأرض، ولذا فهي تعتمد وبشكل أساسي على حاسة الشم لمراقبة المحيط، ولذا فإنَّ حاسة الشم لديها أقوى بكثير من الإنسان، فهي تستطيع أن تشم من على بعد مسافات كبيرة جدًا مقارنة بالإنسان، ويتضح ذلك بصورة أجلى عندما نقوم بالتشريح البيولوجي فنلاحظ أن عدد مستقبلات حاسة الشم النشيطة عند الإنسان 400 مستقبل شمي ويوجد ما يعادل 600 مُستقبِل شمي خامل فقد وظيفته، بينما نجد في الكلاب والجرذان مثلًا أن جميع تلك المستقبلات نشطة، وربما يكون أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل هذه الحاسة ذات قوة كبيرة عند عدد من الحيوانات مقارنة بالإنسان.
لكن البشر أيضًا يختلفون فيما بينهم؛ فمنهم من يمتلك حاسة شم أقوى من الآخر، وعمومًا الدراسات العلمية تشير إلى أن النساء يملكن حاسة شم أقوى من الرجال، ولذا فعليك أن تثق بحاسة الشم لدى زوجتك أكثر من الوثوق بحاسة الشم لديك وخاصة إذا كانت حاملًا؛ حيث إنَّ عددًا من النساء الحوامل تقوى لديهن حاسة الشم بشكل ملحوظ، ويتغير سلوكهن تجاه عددٍ من الأطعمة.
لكن الغريب في الأمر والملاحظ في الوقت نفسه أن الرائحة التي نشمها تعتمد على المستقبِلات الشمية الفاعلة الموجودة لدينا، فالطماطم على سبيل المثال تحتوي على ما يقارب من 400 مركب يضفي رائحة على الطماطم، لكن الرائحة التي نشمها نحن البشر في الطماطم ليست نتيجة لتواجد هذه المركبات الـ400؛ بل هي نتاج لبضع عشرات من تلك المركبات فقط، فجهاز الشم لدينا لا يتفاعل مع بقية المركبات ولا يستطيع أن يكتشفها، ولو تفاعل معها لكانت رائحة الطماطم لدينا مختلفة تمامًا!
وأشار عدد من التجارب إلى أن التربية والخبرات السابقة تلعب دورًا مهمًا في إحساسك بنكهة الطعام الذي تتناوله، فقد لوحظ مثلًا أن رائحة الكراميل عند الأوربيين تعزز وتزيد من تركيز المذاق الحلو في الحلويات، بينما لا تعززها إطلاقا عند الآسيويين؛ بل ربما تولد شعورًا معاكسًا لديهم، والسبب أن الآسيويين يستخدمون الكراميل مع الأطباق المالحة فلم تعتد أدمغتهم على ربط رائحة الكراميل بالطعم الحلو.
الأمر نفسه ينطبق على مادة تعرف بـ”البنزالديهايد” وهي السبب في رائحة اللوز المميزة، فلقد لوحظ أن إضافتها للسكر تعزز وتقوي المذاق الحلو عند الأوروبيين الذين عادة ما يضيفون اللوز في الحلويات، لكن رائحته عند اليابانيين تضيف طعما مختلفا تماما لأنهم يستخدمونه في إعداد المخللات!
لكن الأكثر غرابة في هذا الأمر ما أشارت إليه بعض الدراسات؛ حيث لوحظ أن بصاق الفم ومخاط الأنف يتفاعلان مع عدد من المواد الموجودة في الطعام، ومن هذا التفاعل تنتج مواد جديدة ذات طعم ورائحة مختلفة عن الموجودة في الطعام الذي تم تناوله، وأشارت الدراسة إلى أن بعض هذه المواد يتم إنتاجها بسرعة كبيرة وذلك خلال 3 ثوانٍ من تناول بعض الأطعمة، وبتراكيز مرتفعة تسمح لحاسة الشم بالإحساس بها، فمثلًا يتم تحويل مادة الهكسانال إلى هكسانول، ولذا فعند شمك لمادة الهكسانال فأنت تشم معها مادة أخرى لا توجد في الخارج وإنما هي صنيعة أنفك وهي الهكسانول، كما يتم إنتاج مادة أخرى من خلال تفاعلها مع مخاط الأنف عندما تتطاير جزيئات من مادة بنزيل أسيتات لتتحول في الأنف الى مادة أخرى تدعى بنزيل الكحول مثلًا.
إذا كان دور الحواس الكشف عن العالم من حولنا (كما كنا نظن) فما هو السر الذي يجعل حاسة الشم لدينا تنتج مواد في أنوفنا لا وجود لها في الخارج؟ هل تريد أن تخلق لنا واقعًا خاصًا بنا نحن البشر؟ أم تريد أن تخدعنا؟!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
المصادر:
Chemical Senses, Volume 44, Issue 7, September 2019, Pages 465- 481.
Flavor, The Science of Our Most Neglected Sense, Bob Holems.