من التغيرات المهمة التي نتجت جراء الثورة المعلوماتية، هو سهولة توفر المعلومة العلمية، ففي السابق كان البحث عن المعلومات وتجميعها، يعد جهدا كبيرا ويستهلك الكثير من الوقت المخصص للبحث العلمي.
وأدى سهولة توفر المعلومة الى توجيه بوصلة البحث العلمي بشكل أكبر نحو عدد من الأمور الأساسية منها إظهار وتوضيح أهمية البحث العلمي ومردوده على المجتمع وما هي التحديات التي يحاول أن يحلها، كما تم الاهتمام كثيرا بطريقة طرح المعلومات وعرضها بحيث تكون جاذبة ومبسطة ويستطيع الآخرون فهمها واستيعابها، وأخيرا غدا الاهتمام بالإبداع والابتكار جزءا أساسيا من البحث لما له من أثر مباشر على حياة الإنسان، وكثرت البحوث التي تناولت وحاولت أن تسلط الضوء على سؤال مفاده كيف تختمر الفكرة الإبداعية في ذهن الإنسان؟
ومن المعروف أن الإبداع قائم أساسا على فكرة مبتكرة، فمن أين تأتي هذه الفكرة المبتكرة في ذهن العالم أو الباحث وما هو مصدرها؟
كان الاعتقاد السابق وما زال البعض منا يظن أن الفكر الإبداعي والفكرة المبتكرة تعتمد كليا على التعمق في التخصص العلمي، ولذا فمن المعروف أن بعض أصحاب التخصصات قد لا يشجعون طلبتهم بل قد يمنعونهم من مطالعة الكتب المختلفة والتي لا تصب بشكل مباشر في إثراء المعرفة التخصصية للطالب ويعتبرها البعض مضيعة للوقت لأنها لا تنمي المعرفة المطلوبة وتشغل الطالب عن الدرس والتحصيل العلمي.
إلا أننا نظن أن هذه النظرة غير صحيحة على إطلاقها وعلى أصحابها إعادة النظر فيها، فلقد لوحظ أن الأفكار الإبداعية غالباً لا تأتي من التعمق بالتخصص نفسه بل من خلال الاطلاع والتعرف على التخصصات الأخرى والاستفادة من الأفكار الموجودة في تلك التخصصات ومن ثم نقلها إلى التخصص الآخر، فحلم الطيران وصناعة الطائرات ما كان ممكنًا تحققه لولا التعرف على الميكنة البيولوجية التي تستخدمها الطيور المختلفة في الطيران، كما أن التعرف على الظاهرة الموجودة لدى بعض الكائنات البحرية والتي تعرف بالألق البيولوجي، جعل علماء الكيمياء ينقلون الفكرة إلى مختبراتهم ويحاولون ابتكار نظم كيميائية أخرى تطلق ضوءًا مماثلا أطلقوا عليه الألق الكيميائي، ومن أروع الأمثلة على الإبداع والابتكار هو إبداع علم العروض الذي قام بها العالم العماني الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ فالفراهيدي لم يكتشف علم العروض وهو يقرأ الشعر العربي ويغوص في معانيه فحسب؛ بل توصل إليه بسوق العبيد عندما سمع طَرْقاً على إناء من نحاس بشكل مُنتظم فلمعت في ذهنه فكرة علم العَروض. وهكذا الحال مع الفيلسوف والمفكر الإسلامي الكبير محمد باقر الصدر فقد استفاد كثيرًا من اطلاعه المعمق على علم الاحتمالات وجعله يقحم هذا العلم في عدد من أهم دراساته في المنهج الاستقرائي وبعض أعماله العقائدية والفقهية، ولذا فإن توسعة أفق الطلبة وذلك من خلال المطالعة والقراءة في مجالات خارج تخصصاتهم مما يوفر لهم أفقا واسعا وكما كبيرا من الأفكار المختلفة والتي يمكن الاستفادة منها في الإبداع والابتكار.
ومن هنا تأتي أهمية تخصيص جزء من الساعات المعتمدة في الدراسات الأكاديمية لمواد يختارها الطالب من خارج تخصصه، فهذه الساعات لم توضع عبثًا؛ بل تهدف الى توسعة مدارك الطالب وتجعله يلم بمواضيع أخرى قد لا تكون له علاقة مباشرة بتخصصه.
ولا يقتصر سبل الاطلاع على أفكار أخرى خارج التخصص من خلال المطالعة بل يمكن أن يطلع الإنسان على الأفكار الأخرى من خلال الاحتكاك بثقافات أخرى وذلك من خلال السفر والترحال ولعل هذه أهم فوائد السفر التي يغفل عنها الكثيرون، فمن خلال الاطلاع على تخطيط المدن والمواصلات وطرق تعامل الآخرين مع التحديات التي تواجههم يتطلع الإنسان على أفكار جديدة يمكن له أن يستفيد منها كثيراً في إثراء وتوسعة مداركه وآفاقه، ولذا فليس من الصحيح أن ينظر المرء إلى السفر على أنه فرصة للراحة وتغيير الأجواء فحسب بل هو فرصة رائعة للاطلاع عن قرب على ما هو جديد ومفيد.
إن الطالب والمختص الذي يقبع في غرفته مكباً على كتب تخصصه ولا يفارق تلك الغرفة إلا لحضور محاضرات أو دروس في تخصصه ولا يتعامل إلا مع محيط ضيق من أبناء تخصصه لن يثري العالم في الأعم الأغلب بأفكار إبداعية مبتكرة بل أغلب إنجازاته ستكون في دعم وإبراز ونقد وتحليل النظريات والفرضيات الموجودة في ذلك التخصص لأن عقله لا يطلع على أفكار جديدة خارج صندوق تخصصه، فأنى له أن يبدع؟!
ولذا فعلى الطالب والمختص أن يخصص جزءا من وقته للاطلاع على الكتب والبحوث التي تتناول مواضيع أخرى لا تكون لها علاقة مباشرة بتخصصه؛ فالابتكار كما يعبر عنه هو تفكير خارج الصندوق، وبمعنى آخر هو الخروج من صندوق التخصص إلى غيره ومن ثم جلب الأفكار معه من خارج ذلك الصندوق إلى داخله.