صدرعن المفكّر المغربي الأستاذ إدريس أوهلال العديد من الكتب العلمية التي تتناول قضايا الاستراتيجية والتنظيم والذكاء المالي وصناعة الثروة، وقضايا الجودة وفشل المنظمات وقواعد الحزم وغيرها، وكان آخرها كتاب “الانفجار العظيم: عصر النهايات” الذي صدر خلال العام الحالي في “الرباط” عن مجموعة الأكاديميات الدولية “IAG”.
الكاتب يتناول في أطروحته الجديدة العديد من القضايا التي تهم مجالات التعليم المستقبلي، والثقافة، والرأسمالية، والأزمات التي تعيشها البشرية، ونهاية التفكير، والمجتمعات، والصراع الطبقي، ونهاية الخصوصية، ونهايات المجالات الاقتصادية والديموقراطية والحريات الفردية ونهاية النقود وأنظمة التقاعد وغيرها من القضايا التي تهم الأفراد والمؤسسات الوطنية والعالمية، مع التركيز على انطلاقة بداية دورة تاريخية جديدة في المُجتمعات.
يشير المؤلف في مقدمة كتابه إلى أن هذا الكتاب استشراف للمستقبل وقراءة آفاقه المحتملة، في ظل حاضر مرعب ومضطرب وعنيف ومستقبل غامض، موضحاً أن هذا الكتاب يستمد ضرورته من الأزمات العالمية الحالية، والحاجة إلى فهم ما يجري من تحولات وتغييرات. كما إن الكتاب يتعرض أيضاً إلى وقفات مع ظهور مؤسسات جديدة وثورية تعلن عن نهاية القيم والمؤسسات التقليدية التي فتحنا أعيننا عليها وألفناها لحد الاعتقاد بأنها قيم ومؤسسات طبيعية وأبدية على حد تعبير الكاتب، كما يبحث النهايات للعديد من المفاهيم بصورة حديثة في ضوء التحولات التي يعيشها العالم، والصراعات التي تفجرت في الكثير من مجالات الحياة العلمية والثقافية والاقتصادية، الأمر الذي يتطلب من الشعوب والحكومات تغييراً في كيفية تعليم أبنائها في ظل الثورة العلمية والمعرفية الحديثة، وتحليل القضايا المطروحة بعمق لتعزيز الوعي والحذر مما يُحاك ضد الشعوب والأمم المتخلفة.
هنا يطالب الكاتب بالتخلي عن المؤسسات التي تم إنشاؤها واختراعها في القرن التاسع عشر، مؤكداً أنه من الخطأ التمسك بالمدرسة التقليدية النمطية الفاشلة، حيث يرى أنَّ آلة التعليم الجديدة تفجّر اليوم أشكالاً جديدة للمعرفة ووسائل العلم والتعلّم، ومن الخطأ التمسك بتعليم جامعي نظامي حكومي وخاص يمتد لخمس سنوات وأكثر في زمن يستطيع فيه الشخص من مكانه بالمنزل امتلاك أفضل الشهادات والخبرات في سنة ونصف السنة أو سنتين بمزيج من أفضل الكورسات المتميزة من جامعات عالمية مختلفة وموضوعة رهن إشارته في منصة رقمية بسعر لا يتجاوز 15% من تكلفة الاستثمار في تعليم جامعي خصوصي حضوري. ويؤكد الكاتب في هذا المحور أنه من الخطأ تضييع العمر في تعليم جامعي فاشل، في حين يمكن تعلّم معارف ومهارات بحجم أكبر وبشكل أفضل، وفي وقت أقصر من منصة رقمية عالمية، ومن خلال الأشكال الجديدة للتعلّم التي تتيح للفرد خيارات متعددة ومتنوعة دون قيد عتبة انتقاء أو شرط اختبار قبول، كما يسمح للطالب باختيار المواد التي تناسب احتياجاته وباللغة التي يفهمها لمواكبة المستقبل الذي يواكب نمط حياته وبأسلوب وكفاءة عالية. ويلمّح الكاتب في هذا المحور للقرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 26 يونيو عام 2020 والذي طالب فيه الحكومة الفيدرالية بتوظيف المتقدمين للعمل وفق قدراتهم ومهاراتهم بدلاً من الشهادات الأكاديمية.
كتاب “الانفجار العظيم” يحتاج إلى قراءة متعمقة لفهم المدلولات التي وردت فيه تجاه القضايا التي تعاني منها الدول العربية والإسلامية في مجال التعليم وغيرها من القطاعات الأخرى، في الوقت الذي تقوم فيه الرأسمالية العالمية بتخطيط وطبخ الأمور وفق رؤيتها للعالم بحيث ما يحدث اليوم ليس تغييرا للعبة ولقواعدها، وإنما لتفجير تلك الدول من الداخل.
ويقدم الكاتب مثالاً فيما يتعلق بمحور التعليم، وأن ما يحدث اليوم في هذا القطاع من شد وجذب وصراع بين بعض المؤسسات التعليمية الخصوصية وأولياء التلاميذ ما هو إلا بداية القصة التي لا تحكي عن نهاية المدرسة العمومية المجانية فقط، وإنما عن تحول الكثير من المؤسسات والمفاهيم التي اخترعت في القرن التاسع عشر كالوظيفة العمومية والتوظيف مدى الحياة وأنظمة التقاعد والمصلحة العامة، حيث يتوقع الكاتب أن تطوف الرأسمالية العالمية المتوحشة بجناحيها الواقعي والافتراضي لتستولي على الأخضر واليابس.
الكاتب يؤكد أنَّ النموذج القديم للحياة استنفذ نفسه، وأنه لابد من إعادة اختراع المدرسة والجامعة والوظائف والسوق وغيرها بما يخدم مصالح الشعوب في العصر الحالي، ومواكبة التطورات التي تحدث في عالم اليوم والعمل مع الوظائف الآيديلوجية الجديدة. كما يؤكد الكاتب أنه لا يجب أن يفهم من نقد المؤسسات والقيم التقليدية أو الحديث عن نهايتها على أنها دعوة للتخلي عنها، فنقد المدرسة مثال والحديث عن نهايتها يجب ألا يُفهم منه على أن المطلوب من الأسر هو أن تنهض بمسؤولية تعليم أبنائها، فهذا من سابع المستحيلات في ظل الثورة العلمية والانفجار المعرفي وظروف عمل الوالدين، ومحدودية نتائج تجارب “التعليم المنزلي” دليل على خطورة المغامرة بمستقبل الأبناء بركوب خيارات غير مدروسة وغير مجربة وغير واقعية، في الوقت الذي نرى عجز مؤسسات القرن التاسع عشر لمواكبة تطور الرأسمالية من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية معرفية وعن أداء الوظائف الآيدلوجية الجديدة التي تحتاج إليها في شكلها الجذاب والناعم والرقمي التي ستكون لنا رأسمالية متوحشة ومفترسة لأنها ستعيد إنتاج عبودية القرن العشرين في أشكال جديدة من الهيمنة الشمولية، في الوقت الذي سيُواجه فيه أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة في دولنا الكثير من المصاعب الاجتماعية لمواجهة التنمية الاقتصادية وفق النموذج الرأسمالي الجديد، وسيؤدي إلى ظهور طبقة اجتماعية جديدة. بحيث تكون المؤسسات الجديدة في شكلها الجذاب والناعم والرقمي، وتوفير الفرص للأجيال الجديدة في جو من الحرية في عالم مُبتكر وذكي يعمل في ظل “بلوكتشين، الذكاء الصناعي، إنترنت الأشياء والمعلوميات الكمية، والبيانات الضخمة، والتخزين السحابي”.