محتوى العدد
الاطروحات البشرية
نقطة بدء الانطلاقة !
إدارة الذات (Self Management)
مصنع الدوافع (The Factory of Motivation)
البحث عن الحلول !
مقاربات فكرية نحو حلول جذرية
لا أظن أحداً يقبل بالمشكلات وهي تعصف بالمجتمع الإنساني، ولا أظن أحداً لا يرغب في الوصول إلى الحلول، وليس أي نوع أو أي مرتبة من الحلول بل إن الطلب الملح هو الوصول إلى الحلول الجذرية معرفة وتطبيقاً.
ولن نعدو الحقيقة إن قلنا أن البشرية لم تزل ولا تزال تبحث عن الحلول الجذرية لمشكلاتها التي يعاني منها الأفراد والمجتمعات، ولكن يظهر أيضاً أن هناك موانع تمنع من تحقيق تلكم الحلول، فما هي هذه العقبات؟، وما هي تلكم الموانع؟، سنحاول الوقوف ولو إجمالاً على جذر المشكلات، وعلى الموانع التي تقف دون إتمام الحل على أرض الواقع.
ولن نعدو الحقيقة أيضاً إن قلنا أن نلكم المشكلات لم ولا تقتصر على بني البشر فقط، بل إنها تتعدى لتطال جميع الكائنات على وجه الأرض، وكذلك ما يحيط بالكرة الأرضية، ترى كيف هذا؟، وما هو السبيل لوقف الاستنزاف البشري؟، ابقى معنا في هذه الحلقة إن شاء الله تعالى للتعرف على الطرح.
الأطروحات البشرية:
حقيقة عقلية بديهية أن النتيجة تتبع أخس المقدمات، وأن السلوك ترجمان لما يعتنقه الإنسان من معارف ونظريات وأفكار، وهي ما تعرف بــ”المعتقد”، فلا يمكن الغفلة عن المتبنيات الفكرية والثقافية والمعرفية التي ينطلق منها البشر عادة، كما يتبين أن هذه المتبنيات إذا ما خرجت إلى عالم التطبيق فإنها لا تعدو عالم “الاعتبار” المحض، وبغض النظر عن تأثر الثقافات والأفكار عادة بالأرضية السيكلوجية التي تلعب دورها في تأطيرها بأطرها، فإن هناك مجموعة من التساؤلات التي سوف تتوجه إلى المخرجات الفكرية والثقافية والمعرفية البشرية هو: هل هي تضمن النجاح الأكيد في ساحة الأفراد والمجتمعات؟، وهل تضمن عدم الانحراف البشري؟، وهل تستطيع توفير الأجواء لحياة سعيدة أكيدة؟، وما هي القواعد التي اعتمدت فيها وفي بناها المعرفية؟.
لا شك أن هذه الأطروحات سوف تلاقي الكثير من الاستفهامات، والتي تصل بعضها إلى حد النقد الشديد، وكما نعرف أن طرح مثل هذه الأسئلة حق مشروع للجميع، فمن حق الجميع البحث عن سعادة ليس فيها تعاسة، ومن حق الجميع أن يعيش مثل هذه الحياة الجميلة، ولعدم قدرة البشرية الوصول إلى برنامج متكامل لأفرادها يجعلها دائماً وأبداً تعيد النظر في برامجها لتغييرها إلى الأحسن، ولتعديلها إلى الأفضل، وبلحاظ الاعتبار المحض السابق ذكره يبقى التساؤل الأكبر نوعاً فارضاً وجوده وهو: هل تناغم المتبنياتُ البشرية “الاحتياجَ الذاتي” للإنسان؟، وهل تتلائم مع “الاحتياج الذاتي” للموجودات؟، ولنفترض أن يكون الجواب إيجابياً، فهنا سوف يطرح سؤال آخر: وكم هي النسبة المتحققة؟ هل مطلقاً أم نسبة؟، وكم هي تلك النسبة؟، وما هو الدليل على هذا التحقق؟، وهذا بذاته يبعث في النفس تساؤلات عن المحركات لتلكم الأفكار والثقافات والمعارف البشرية!.
وبالمقابل نجد هناك أطروحة أخرى تنطلق من مبادئ تكوينية وجودية ولا تعرف في عالم الاعتبار المحض، لأنه تنشأ وتصدر من مناشئ تكوينية وجودية، تستمد مبادئها من حاق الموجود وليس من خارجه، الأمر الذي يبعث الاطمئنان بسلامة المقدمات والمدخلات وبسلامة النتائج والمخرجات، وكذا بسلامة المحركات التي تحرك المعارف والثقافات والأفكار والاطروحات الصادرة من هذه الناحية، فكم هو فرق بين أن تكون هذه المتبنيات تصدر عن “جعل اعتباري” وبين أن تصدر عن “جعل تكويني وجودي”، وهذه الأطروحة ليست إلا أطروحة “صانع هذا الوجود” فإن لم تقف البشرية على الواقع وحقيقة وما يفرضه على كل شيء من مسائل فإن السير في عالم “الاعتبار المحض” لن يزيد الإنسان إلا تيهاً وزيادة في الوقوع في المشكلات.
نقطة بدء الانطلاقة !:
يحتار البعض في النقطة التي ينبغي الانطلاقة منها لعملية التغيير الإيجابية في الحياة، وكيف ينبغي أن تكون، ويمكننا أن نضعها في البيان الآتي:
النقطة المحتملة الأولى: من خارج ذات الإنسان.
النقطة المحتملة الثانية: من داخل ذات الإنسان.
وإذا انتهينا إلى معرفتها بالتحديد، فسيرد الكلام في تفاصيل أخرى؛ من قبيل:
هل أبدأ بتشكيل المعلومات، أم بترتيب الملفات، أو بتحديد الأهداف، أم برسم استراتيجية، أم بمعرفة المحيط، وهكذا نجد تنوع المسائل.
من خلال التجربة البشرية ومن خلال ما انتهى إليه علماء “النفس الفلسفي”، وكذلك علماء الاجتماع هو أن نقطة البدء لأي عملية تغييرية يريدها الإنسان، هي: “نفسه” التي بين جنبيه، وقد صرح أهل التخصص في هذا المجال؛ أن أي نجاح في الحياة الاجتماعية مرهون بالنجاح على مستوى النفس والذات، وما لم يتمكن من ذلك فهو سوف يخفق كثيراً في حياته الاجتماعية، ومن هنا كان تركيز “علم النور” على هذه النقطة الأساسية، وهي تعد أُمُ نقاط التغيير الجوهري والأساسي في حياة الإنسان، وأول خطوة ينبغي الوقوف عندها هي: “معرفة هذه النفس”، إذ أن معرفتها أساس التعامل معها، فما لم يتعرف عليها كان التعامل معها أمراً أقرب إلى التعذّر.
وأجدني هنا أستعير كلمات الدكتور ألكسيس كاريل الفرنسي 1873 – 1944م حيث ألف كتابا سماه بــ”الإنسان ذلك المجهول”، نعم رغم أننا الأقرب إلى الذات والنفس إلا أننا أبعد الناس عنها، فلو تمكنا من الولوج إلى عمق هذه الذات، وتعرفنا عليها وعلى احتياجها الذاتي لأمكننا إدارتها إدارة صحيحة، ولوفر هذا علينا الكثير من الوقت والجهد، ولكان النجاح حليفنا في مختلف مجالات الحياة بقسميها الفردية والاجتماعية، وهذه الإدارة للذات تحتاج لأن تصل إلى “قيادتها”، وبالشكل الصحيح.
إدارة الذات (self management) :
عندما نرجع إلى تعريف “إدارة الذات” فسنجده قد خلط بين مجموعة من المسائل التي لا تمت إلى الذات بصلة إلا أنه يقال أنها مسائل عارضة عليه وليست من المسائل التي تتعلق بالذات بشكل مباشر، أو تنطلق منها، وتتكون في داخلها، فوضعت إدارة الوقت ضمن إدارة الذات، وكذلك دارة الأهداف، ومنها كيف أكون متفائلاً، وكيف أكون سعيداً، وكيف أكسب الأصدقاء، وغيرها من العناوين التي تعم السوق الفكرية اليوم، ولكن مع قليل من التأمل فيها وفي الذات فسوف ننتهي إلى نتيجة واحدة وهي: أن هذه العناوين ليست إلا عوارض تعرض على الذات، مثلما يعرض اللون على الجسم، والعنوان في حد نفسه يلفت انتباه القارئ والمستمع إليه، ويضعه في موضع الشوق والانجذاب لما سوف يتلقى حول هذه الذات !.
ومن هنا نؤكد على ضرورة وضع الكلمات بإزاء معانيها الحقيقية، وهذا بحد ذاته منتج إيجابي، ومثمر لثمار طيبة، فإن البحث في موضوع الذات والذي سيقودنا إلى ضرورة إدارتها لا بد وأن ينطلق من الذات نفسها، وأن يغوص في اعماقها، ويتعرف عليها عن كثب، وبالتالي يتعرف على خصائصها، وآثارها العلمية والعملية، وتأثيرها على النجاح في المحيط على مستوى الذات والآخرين بما يشكل الكائنات التي تحيط بها أيضاً.
ويمكننا أن نعبر عما تقدم بتعبير آخر وهو أن هناك مراتب في التعامل مع هذه الذات، والقفزة على المراتب المتقدمة لأي سبب أو غرض كان مؤثر سلباً على إدارتها بالشكل الصحيح، بل ولربما ننتهي إلى نتائج غير سليمة، فإن الأعراض السلوكية مهمةٌ، إلا أنها ليست هي المطلوبة أولاً وبالذات، وهي تأتي في مراحلة لاحقة، وتظهر حسب الاحتياج إليها في الساحة العملية، فكم هو فرق بين الوقوف على “منبع السلوك” و”مصدر الصفات والمهارات” وبين الوقوف على فرع من فرعهما،
أجل إنه فرق كبير بين “المهارات اللينة” (Soft Skills)، وبين “المهارات الصلبة” (Hard Skills)، البحث فيها والعمل على تحقيقها وتطويرها أمر جميل؛ إلا أن المشكلة التي قد لا يلتفت إليها الكثيرون بسبب تغلف أغلب البرامج بأغفلة تجارية تسويقية لغرض تحصيل الأرباح، وهذه المشكلة تتخلص في الأتي: ما هي الدوافع وراء استعمال المهارات؟، وهل لهذه الدوافع أي أثر على أداء وفاعلية المهارات على أرض الواقع؟، ولنقرب المطلب عن موضوع الدوافع بهذا السؤال: هل يمكن أن تمارس المهارة بدوافع تخالف القيم الإنسانية؟، وهل البشرية مستعدة للمخاطرة في استعمال مثل هذه المهارات؟، أظن لو كان هناك طبيباً حاذقاً وبارعاً في أدق العمليات الجراحية، ولكن كان هذا الطبيب محسوباً على جهات غير مرضية دولياً، ولربما يكون مطلوباً دولياً؛ وأصيب رجلٌ مهم وهو شخصية بارزة دولياً بما يحتاج إلى إجراء عملية جراحية، وكان العلاج الناجع غير متوفر إلا بيد هذا الطبيب فهل يستطيع أن يخاطر بحياة تلك الشخصية؟!، الجواب هو: ستتم الاستعانة بأطباء أقل منه درجة، ولكن الاستعانة بتلك الشخصية المطلوبة دولياً سيكون أمراً غير مقبول لدى الجهات المسؤولة ولدى العقلاء، إذن فإننا لا ننظر إلى المهارة بمعزل عن “الدوافع” وعن تاريخ صاحب المهارة، الأمر الذي يقودنا إلى الإعلان عن ضرورة الاهتمام بأمر آخر، وهو على حسب معطيات “علم النور” لا يقل أهمية عن ذات المهارة بل ويفوقها أهمية وهذا الأمر هو: “مصدر المهارات والصفات” (Source of the Adjectives and Skills ).
مصنع الدوافع (The Factory of Motivation) :
يتبين أننا معاشر البشر نقدم “الدوافع” على المهارات مهما كانت ابتكارية، لأن عقولنا تدخلنا إلى عوالم النوايا، وهذا أمر مستساغ ومطلوب، بل ويدعو إليه العقلاء، فلو اندفع امرء إلى تبني صاحب المهارة ومن دون استبيان نواياه ودوافعه، ومن ثم قام بفعل غير صحيح لاستحق داعيه نقد العقلاء، ولربما عرض نفسه إلى العقوبة، واما استبيان الدوافع أمر غير صعب، وطرقه كثيرة، والأمر سهل.
وعندما نرجع الأمر إلى الدوافع فهذا لا يعني أنها هي المصدر الأساسي للسلوك البشري، بل هناك مصدر أساسي تصدر منه الدوافع، وهو يعد المنبع الذي يلون الدوافع بألوان مختلفة، والتي مجمعها عنوان “الفضيلة” و”الرذيلة”، إذ لا يمكن لأي سلوك أن يخرج عن هاتين الصفتين، فمرجع جميع الدوافع والصفات إليهما، نعم سيبقى الكلام حول كيفية معرفة ما هو الفضيلة وما هو الرذيلة، وعن معيار التمييز قائماً، والأمر في هذا الناحية أيضاً سهل إن شاء الله تعالى، وإننا وجدنا الأقدمين قد بحثوا في هذا المجال وانتهوا إلى تحديد مصدر الصفات والتي تعتمد عليها المهارات في تقييمها وتثمينها، وفي تقييم صاحبها وتثمينه.
ونجد المؤسسات بكافة أنواعها وتوجهاتها لا يمكن أن تعين من كانت دوافعه غير سلمية، أو كان يحمل تاريخاً غير صحي يتعلق بنفسيته أو عقله أو سلوكه، فلا يكتفون بالمهارات البدنية أو اليدوية أو الفكرية وغيرها، وهذا دليل أيضاً على أن المهارات بما هي هي غير مطلوبة مستقلة عن المتبنيات العقلية والفكرية، وعن المباني المعرفية التي تعتمد عليه، الأمر الذي يؤكد على ضرورة النظر إلى عالم الذات الداخلي، وكيف يعمل، وكيف يمكن إجراء التغييرات عليه، وما هي السبل لتحفيزه، وتطويره بما يتوافق وبيئة “الاحتياج الذاتي” الشامل.
إذن .. لا يمكن تهميش المباني المعرفية، أو غض الطرف عنها بأي حال من الأحوال، أو تجاوزها، فلا بد من أخذها في عين الاعتبار في كل عملية من العمليات الإنسانية التي يقوم بها كل فرد أو كل مؤسسة، فإن تلكم المباني المعرفية تشكل القاعدة الأساسية التي تنطلق منها المهارات والسلوكيات، وتتشكل وفقها شخصية الإنسان.