بداية أدرك إن هذا المقال عن ضرورة إيجاد مدارس للموهوبين قد يثير عددا من التساؤلات والإشكاليات، ولكن ليس هذا الموضوع بجديد، وكان يحصل في عدد من الحضارات السابقة أيضًا، كما هو مطبق حاليًا في عدد من الدول؛ حيث يتم الاهتمام بالموهوبين عن طريق إيداعهم في مدارس خاصة (المدارس النموذجية).
علة ذلك أن الله خلق البشر مختلفين عن بعضهم البعض، في ميولهم واتجاهاتهم وعواطفهم، في ألوانهم وأشكالهم، في إمكانياتهم وقدراتهم العقلية والجسدية ومواهبهم، وفئة الموهوبين في أي مجتمع قليلة، لذلك من الضروري منح هذه الفئة أحسن الفرص وأفضلها، ومن الصعب التصور أن الاهتمام بالموهوبين يمثل أي تمييز، التمييز يكون في الحقوق والواجبات والفرص المتاحة وأمام القانون، فالمدارس والكليات تُكّرِم الأوائل من طلابها، وكذلك الشركات تُكرِم المنتجين والمتميزين من موظفيها، والحكومات تجري مسابقات عديدة لتكريم المتميزين من الأفراد الذين قدموا خدمات متميزة للبلد والمجتمع أو الشركات التي تميزت في حقول محددة، وكثيرون من الآباء بما فيهم بعض المسؤولين يودعون أبناءهم في مدارس خاصة للحصول على تعليم مُتميز يتناسب مع قدراتهم وإمكانياتهم.
إهمال الموهوبين بحجة منح فرص متساوية للجميع، ظلم لهذه الفئة من الموهوبين، وظلم للمجتمع، فالعدالة تقتضي منح هذه الفئة ما يناسبها، ويحقق لها أقصى درجة ممكنة من النمو، وتفجير طاقاتهم الإبداعية والابتكار ية.
قد يزعم البعض أنهم إذا كانوا موهوبين، فما هي الحاجة إلى مدارس خاصة للاهتمام بهم؟ فهم نظرا لكونهم مبدعين، قادرون طبيعيا على التعلم والنجاح بمفردهم من دون مدارس خاصة لهم أو بمنحهم رعاية خاصة، لأنهم قادرون على إيجاد حلول لمشاكلهم بأنفسهم ومن دون مساعدة من أحد، ولكن تفجير إبداعاتهم لن يتم إلا من خلال مدارس خاصة تسمح لهم بإظهار إبداعاتهم، وعكس ذلك مثلما تظهرها دراسات عديدة، فإنهم سوف يعانون من مشكلات عديدة ومختلفة، وسوف يواجهون بعض المعوقات في بيئاتهم الأسرية والمدرسية والمجتمعية، كما إن المجتمع ككل لن يتمكن من الاستفادة القصوى من إبداعاتهم.
يجب أن لا يغيب عن بالنا أن التنمية البشرية بمنظارها العملي الأوسع بحاجة إلى طبقة رائدة من الأشخاص الذين يقع عليهم عبء قيادة التنمية بجميع أنواعها، ولاسيما نحن نتكلم عن اقتصادنا المستقبلي القائم على المعرفة، حيث يكون للقوى العقلية وما تحتويه من عناصر الإبداع، وليست القوة الميكانيكية أو الجسدية التأثير الأكبر، وحيث إنه لا توجد طريقة سريعة أخرى يمكن اتباعها، فسوف يعتبر هذا الإجراء معقولا، بل مطلوبًا.
إن مسؤولية أية حكومة هي التأكد من سلامة إجراءاتها الاقتصادية والتعليمية ومتانتها، وعلى ضرورة توفير طبقات قادرة على إدارة العملية التنموية، فالمؤشرات- بل الأدلة التي تفرزها التطورات العالمية المتسارعة- تُحتم علينا أكثر من أي وقت آخر إعطاء أهمية قصوى للموهوبين واكتشافهم ورعايتهم، ونظامنا التعليمي عليه أن يعطي أهمية بالغة لهذه الفئة للاستعداد لمواجهة كافة المتغيرات العالمية والمحلية والظروف الحالية والمستقبلية.
مرحلة التعليم الأساسي “الابتدائي والمتوسط والثانوي” تعد أكثر مراحل التعليم فاعلية وتأثيرا لاكتشاف الموهوبين، وتنمية ورعاية وتنمية قدراتهم، لإيجاد جيل من الأشخاص المفكرين والمبتكرين والمبدعين والقادرين على المساهمة الفعَّالة لصنع مستقبل أفضل لهم ولأسرهم ولمجتمعهم الكبير. وإتاحة فرصة التعليم للجميع والرقي بالعملية التعليمية عموما مهمة جدا، ولكن الاهتمام بالموهوبين مهم جدًا أيضًا؛ ليتمكنوا من حمل مشاعل النور وتحقيق النهضة المتجددة، والمجتمعات عبر تاريخها القديم والحديث أعطت مزيدا من الاهتمام لرعاية هؤلاء الموهوبين صناع المستقبل وقادته وعلمائه حتى تتحقق لها القيادة والرعاية والتقدم.
الثورة التكنولوجية الرابعة التي تكتسح العالم هي ثورة غير مسبوقة، وتختلف عن الثورتين الأولى والثانية في عدد من الوجوه، فالثورة الرابعة مثل الثورة الثالثة تعتمد على المعرفة العلمية المتدفقة، والاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة، وحجم المعرفة سيتضاعف في عدد قليل من السنين القادمة، وسوف يكون مساويا أو يزيد عما تراكم من المعرفة الإنسانية منذ بداية الثورة الزراعية قبل نحو عشرة آلاف سنة.وعلى سبيل المثال، فإنَّ المعرفة الإنسانية كانت تتضاعف كل مائة سنة قبل الحرب العالمية الأولى، وبسبب الاكتشافات العلمية المستمرة من قبل الموهوبين، أصبحت المعرفة الإنسانية مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 تتضاعف كل خمسة وعشرين عاماً، ثم بدأت تتضاعف كل عشر سنوات مع حلول التسعينات من القرن الماضي، ويُقدر أنها سوف تتضاعف كل 12 ساعة خلال السنوات القليلة القادمة؛ أي أنَّ المعرفة البشرية المتراكمة سوف تتضاعف يومياً من كل المعرفة البشرية المتراكمة منذ التاريخ المُسجل للإنسان، أي منذ نحو أكثر من 10 آلاف سنة.
هذه الثورة تختلف عن الثورتين الأولى والثانية في عدد من الوجوه، فبينما كانت الثورة الأولى تعتمد على قوة البخار والميكانيكا والفحم والحديد، وعلى رأس المال العصامي، وعلى قوة الدولة المباشرة لتأمين المواد الخام، وفتح الأسواق العالمية بالقوة من خلال الاحتلال العسكري السافر، وبينما كانت الثورة الثانية تعتمد على الكهرباء والنفط والطاقة النووية وفن الإدارة الحديثة والشركات الوطنية المساهمة، فإن الثورة الرابعة تعتمد أساسا على العقل البشري والإلكترونيات الدقيقة والهندسة الحيوية والذكاء الصناعي الذي قد يفوق الذكاء الطبيعي، وتوليد المعلومات حول كل شؤون الأفراد والمجتمعات والطبيعة، واختزان المعلومات واستردادها، وتوصيلها بسرعة هائلة، بل آنية، وكذلك على الاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة، ولأن العقل البشري، وليس القوة العضلية أو الميكانيكية هو العماد الأول لهذه الثورة، ولأنه يمثل طاقة متجددة لا تنضب، فإنَّ الثورة التكنولوجية الرابعة وما سوف تليها سوف لن تكون حكراً للمجتمعات الكبيرة المساحة، أو ضخمة السكان، أو الغنية بمواردها الأولية أو القوية بجيوشها التقليدية، بل يمكن لجميع شعوب العالم أن تخوض غمارها، سواء أكانت صغيرة أو كبيرة، إذا أحسنت إعداد أبنائها تربوياً وتعليمياً وتدريبياً، وتفجير القوى الإبداعية في عقول أبنائها وبناتها، والدليل على ذلك أن عددا من الدول ومنها سنغافورة، الصغيرة جداً في مساحتها، والتي تفتقر إلى أية موارد طبيعية، ومع ذلك استطاعت استثمار وتطويع مواردها البشرية المتاحة، بأسلوب علمي صحيح، مما مكنّها أن تكون على قائمة الدول المتقدمة في العالم في ثورة المعلوماتية والتكنولوجية، وإذا لم نتمكن من استيعاب تكنولوجيا العالم المتقدم، فإنها سوف تنطوي على أذى كبير لنا، لأنها سوف تحيل معظم أنشطتنا ووظائفنا الحالية إلى مشروعات لا جدوى منها، وتكون عبئاً ثقيلاً على كواهلنا، وبالعكس فإنها سوف تنطوي على منفعة كبيرة لنا، إذا تمكنا من استيعابها وتوطينها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح، وكيفية إدارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية، والأشخاص الموهوبين عندنا سوف تلعب دورا كبيرا في تحديد قدراتنا على مواجهة التحولات التكنولوجية الحاصلة أو التي قد تحصل غدا وبعد غد.
في ظل عصر العولمة والتنافس الشديد بين الدول الذي لم تشهد له البشرية مثيلا في التاريخ، أصبح ضروريا الاهتمام بطاقة كل أفراد المجتمع ولاسيما طبقة الموهوبين للارتقاء بالجهود في مجال التفوق والموهبة، ولم يعد مفهوم الموهبة محصورا بالذكاء وحده، بل تعدى المفهوم إلى القدرات الكامنة التي لم تبرز بعد لعدم توفر الفرص المناسبة لبروزها، فقد أصبح الموهوب متميزا في أي مجال من مجالات الحياة المختلفة.
كيف تتمكن وزارة التربية والتعليم من القيام بالاهتمام بهذه الفئة الموهوبة؟ عموماً في ظني على الوزارة القيام بالخطوات الخمسة التالية:
أولًا: على الوزارة إيجاد المدارس الخاصة عن طريق دراسة الوضع الحالي للمدارس، وحصر الاحتياجات الخاصة للمدارس النموذجية.
ثانيًا: توفير الاحتياجات والخدمات ونوعية المدرسين والموظفين لتلك المدارس.
ثالثًا: تفعيل مراحل الكشف عن الموهوبين حسب آليات محددة متبعة في العالم وتحديد جدول زمني محدد، يتم مراقبته باستمرار.
رابعًا: مراقبة ومتابعة العملية التنفيذية، ورصد تفعيل الخطة الإجرائية.
خامسًا: تتم عملية التقييم وحصر نقاط القوة والضعف وتحسينها باستمرار.
كل ذلك سوف يقتضي من الوزارة توفير الأخصائيين سواء من داخل عُمان أو من خارجها، ومتابعة ملف لجنة رعاية الموهوبين، والتأكد من أن الوثائق المتعلقة من إجراءات تحديد الموهوبين والمعايير الموضوعة لتوظيف الخدمات لهم دقيقة، ويمكن الوصول إليها والاطلاع عليها من قبل الوالدين وأصحاب المصلحة الآخرين.