Image Not Found

القلق وليد التربية

أ. د. حيدر أحمد اللواتي ** – الرؤية

القلق حالة نفسية مُزعجة تشغل ذهن الإنسان وتأخذ حيزًا كبيرًا من تفكيره، ولا أظن أنَّ أحدًا منِّا لم يمر بها في حياته؛ إذ إنها حالة يتعرض لها الإنسان بصورة مستمرة، ولكن بدرجات متفاوتة، وقد خضعت هذه الظاهرة لعدد كبير من الدراسات والبحوث العلمية المختلفة، وتم تصنيف القلق كمرض مزمن، إذا كان الإنسان يقضي نصف يومه قلقًا، ولكن في المقابل فإن ظاهرة القلق ليست أمرًا سلبيًا بالمطلق؛ فالقلق للدماغ بمنزلة الألم للجسد، كلاهما مؤشر يشير إلى وجود مشكلة؛ فالألم يشير إلى وجود مشكلة عضوية في جسدك، والقلق يشير إلى مشكلة نفسية تؤثر في دماغك وتشغله عن أداء مهامه المعتادة، تمامًا كما يشغلك الألم عن القيام بنشاطك المعتاد.

ونظرًا لانتشار ظاهرة القلق، فإنَّ عددًا من الكُتب المختلفة تناولت هذه الظاهرة بالدراسة والتحليل، إلا أن أحد هذه الكتب التي وقعت بيدي وهو كتاب صغير الحجم لا يتجاوز 100 صفحة، وجدته مُميزًا؛ إذ إنِّه يتميز بفهم وتحليل جميل لفهم ظاهرة القلق وكيفية التخفيف منها، ولذا وجدتُ من المفيد طرح بعض الأفكار التي يتناولها الكاتب وصياغتها في مقال مختصر ويمكن للإخوة الراغبين بالتعمق في الموضوع الاطلاع على الكتاب بأكمله (1).

من خلال قراءتي للكتاب وجدتُ أن التربية والبيئة التي ينشأ فيهما الطفل تلعبان دورًا مهمًا في تكوين الشخصيات القلقة؛ بل هي الرافد الرئيسي لإنتاج شخصيات قلقة في مختلف المجتمعات، ولذا فربما على الآباء الاهتمام والاعتناء بذلك كثيرًا؛ لأنَّ حياة طفلهم النفسية تتأثر وبشكل كبير بطريقة تعاملهما معه وهو في صغره؛ بل ربما نستطيع القول إن الأسرة والتربية من أهم العوامل المؤدية إلى تكوين الشخصية القلقة في أغلب المجتمعات.

إن الوالدين يمثلان القدوة الأهم لدى الطفل، ولذا فتصرف الأب والأم تجاه الأحداث المستقبلية تفاؤلًا وتشاؤمًا هو ما يحدد مستوى القلق عند الأولاد، فإذا كانا ينظران إلى الأحداث نظرة تشاؤمية ودائمي القلق فهما بذلك يربيان أولادهما على القلق، ويتضح ذلك من خلال سلوك الآباء تجاه بعض الأمور، فمثلًا قد يمنع بعض الآباء أبناءهم من القيام بأنشطة جديدة لم يعتادوا هم عليها وتعد أنشطة اعتيادية لمن هم في سن أطفالهم، ويصاحب هذا الامتناع تحذير وتخويف شديدين، وإظهار لتلك المشاعر من خلال نبرة الصوت وأسلوب الحديث وملامح الوجه، ويصاحب ذلك عادة رسم لسيناريوهات تشاؤمية لما يمكن أن يؤول إليه الأمر، في حال إقدام الطفل على القيام بهذا النشاط، على الرغم من أن احتمال حدوث هذا السيناريو المتشائم قد يكون ضعيفًا جدًا. هذا التعامل مع الأبناء يربي الطفل على النظر إلى الأمور من منظار الخوف من حصول الأسوأ في أغلب الأعمال التي يُقدم عليها، ولذا يفقد الطفل لذة الاستمتاع عند القيام بأمور جديدة؛ لأنَّ الخوف والقلق يتحكمان في تصرفه، كما إنه سينظر إلى مآلات الأمور بمنظار الخوف والحذر عندما يكبر، فحدوث الأسوأ يسيطر على فكره ويقفز أمام عينه حتى وإن كان احتمال حدوثه ضعيفًا.

لذا على الوالدين إن رغبا في منع الطفل من مُمارسة نشاط معين أن يتجنبا إظهار مشاعر القلق أمامه وعدم ربط منعهما بالسيناريوهات المتشائمة؛ بل عليهما أن يدرسا الأمور جيدًا ويسعيان إلى إقناع الطفل دون إثارة الخوف والقلق في نفسه كأن يطرحا بديلًا آخر أكثر جاذبية للطفل.

ويشير مؤلف الكتاب إلى ظاهرة أخرى مرتبطة بالتربية أيضًا، وهي أن بعض الآباء يظهرون رفضهم الشديد لكل خطأ يصدر من الطفل مهما كان صغيرًا، ويؤدي ذلك إلى أن يكون الطفل شديد الحذر في سلوكه خوفًا من الوقوع في الخطأ، وعندما يكبر يصبح كثيرٌ التردد في اتخاذ القرارات مما يجعله قلقًا لفترات طويلة؛ لأنه يحاول البحث عن اليقين في الوصول إلى القرار الصحيح وعدم الوقوع في الخطأ، وغالبًا- كما نعلم- فلا تكون الأمور سوداء أو بيضاء يسهل اتخاذ القرار فيها؛ بل يغلب اللون الرمادي عليها.

أما خلاصة النصيحة التي يوجهها الكاتب لمواجهة القلق فتتلخص في تحليل ظاهرة القلق؛ إذ إن تحليل الظاهرة يشير إلى أن هناك علاقة طردية بين القلق والتردد؛ لأن القلق يشغل الفترة الزمنية الفاصلة بين اللحظة التي أدركنا فيها وجود حالة القلق وبين القيام بخطوات عملية لمواجهته؛ فالشخصية المترددة تأخذ وقتًا طويلًا كي تتخذ قرارًا عمليًا لمواجهة القلق، ولذا تظل قلقة لفترات طويلة، والحل يكمن في الإسراع باتخاذ قرار حيال التحدي الذي يثير القلق في النفس، وذلك ضمن منهج علمي وخطوات عملية طرحها الكاتب في فصول الكتاب.

إن القلق يشبه جرس الإنذار، لكنه مركب في النفس البشرية، فكما إن إطلاق صفارات الإنذار الخاطئة يضيع الوقت والجهد، كذلك القلق سيُهدر كثيرًا من جهدك وطاقتك إن تمَّ إطلاقه بصورة متكررة.. لذا احرص أن ينطلق جرس إنذارك الداخلي عندما يكون هناك حريق حقيقي في الخارج.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس