بعد هذه الإطلالة المختصرة في هذه السلسلة عن بحوث نشأة الحياة على كوكب الأرض تبين لنا أن لغز نشأة الحياة من الألغاز العلمية بالغة التعقيد، ولكن ما هو متفق عليه أن عددا من المركبات الكيميائية هي مركبات أساسية لنشأة الحياة كمركب “دي إن إيه” و”آر إن إيه” وعدد من البروتينات بالإضافة إلى الريبوزومات وجدار الخلية.
فهل بإمكاننا أن نوجد خلية حية أو أن نصنع الحياة من خلال تجميع هذه المركبات الأساسية معاً؟
لا شك أن محاولة القيام بذلك أمر في غاية الصعوبة وتحد كبير، ولم يجرؤ أحد من فرق البحث العلمي على القيام به لصعوبته البالغة، ولكن وللإجابة على هذا السؤال فقد حاول العلماء استخدام طريقة مغايرة تعرف بـ”من الأعلى إلى الأسفل”، فبدل أن نبدأ بتجميع هذه المركبات ومحاولة تصنيع خلية حية وهو ما تعرف بطريقة “من الأسفل إلى الأعلى”، نقوم باستخدام خلية بسيطة للغاية، ومن ثم نحاول انتزاع المركبات الكيميائية منها بغية الوصول إلى أبسط شكل ممكن للحياة.
ومن المحاولات الرائدة في هذا المجال ما قام به أحد المختصين في مجال علوم الحياة قبل حوالي خمس سنوات ونشر في مجلة ساينس Science العالمية؛ إذ حاول القيام بتصنيع أبسط نمط للحياة عرفته البشرية وهذا النوع من الكائنات الحية غير موجود في الطبيعة فهو كائن مختبري بامتياز لا وجود لمثله في الطبيعة، فكيف يا ترى تم تصنيع هذا الكائن البدائي الذي لا وجود لمثله في الطبيعة؟
لقد تم استخدام خلية حية لبكتيريا من أمعاء معزة، وهذه الخلية البكتيرية تحتوي على 473 جين فقط، والجين هو عبارة عن مركب “دي إن إيه” الذي يحتوي على تعليمات تكوين البروتينات اللازمة لعمل الخلية، ويعد هذا العدد من الجينات صغيرا جدا مقارنة مع عدد الجينات الموجودة في خلية الإنسان على سبيل المثال والتي تصل إلى أكثر من عشرين ألف جين، والسؤال الذي كان يحاول الفريق البحثي الإجابة عليه هو ما هو العدد الأدنى من الجينات المطلوبة لكي تقوم هذه الخلية البكتيرية بوظائفها الأساسية للحياة؟ وفي سبيل الإجابة على هذا السؤال قام الفريق البحثي بتفريغ الخلية من عدد من الجينات الواحدة تلو الآخر فإذا بقيت الخلية حية أكمل الباحثون عملهم وقاموا بتفريغ الخلية من جين آخر، أما إذا ماتت الخلية فهذا يعني أنَّ الجين الذي تم انتزاعه ضروري لحياة الخلية.
لكن الغريب والمدهش في الأمر أنهم وبمجرد إرجاع الجين إلى موقعه في الخلية في حال موت الخلية فإن النشاط الحيوي للخلية يرجع كما كان وكأن الخلية عادت لها الحياة مرة أخرى! وكأن الحياة في هذه الخلية مكونة من مركبات معقدة يمكننا التحكم بها من خلال هذه المركبات.
وباستخدام الطريقة المذكورة توصلوا إلى أن العدد الأدنى من الجينات اللازمة لبقاء الخلية حية هو 324 جيناً، أي ما يعادل حوالي 68% من العدد الكلي.
إن الخلية التي تم تصنيعها في هذا المختبر تعد أبسط نوع خلية حية موجود على وجه الأرض وقد أطلق عليها JCVI-syn3.0، وهذه الخلية تقوم فقط بالوظائف الأساسية للحياة، فهي تنتج طاقة وتتحسس المحيط كما أن لها القدرة على التكاثر، وأي محاولة لانتزاع جين آخر من الـ324 جينا سيؤدي إلى موت الخلية فهي خلية لا تحتوي على أية كماليات.
إن هذا البحث يشير إلى أن هناك 324 جينا ضروريا للحياة، ولذا فقد حاول الفريق البحثي الكشف عن وظيفة هذه الجينات الـ324، لكن المدهش في الأمر أن الفريق البحثي عجز عن تحديد وظيفة 149 جينا من مجموع الجينات الـ324، ولماذا تعد هذه الجينات ضرورية وأساسية لبقاء الخلية حية.
إن الجهل بوظائف ما يعادل بـ32% من الجينات الأساسية لبقاء هذه الخلية حية يشير إلى أن هناك كما كبيرا من الخصائص الأساسية للحياة ما زالت مجهولة لدينا وأن تعريف الحياة من أساسه يحتاج الى إعادة نظر فنحن ما زلنا نجهل ما هي الحياة ونجهل ما يعادل حوالي ثلث خصائصها الأساسية.
ترى هل سنصل إلى إجابة شافية في خاتمة المطاف أم سؤالا مثل سؤال “كيف نشأت الحياة؟” هو من الأسئلة الخالدة التي ستبقى سرا نقترب منه ولا نصل إليه، فالفارق بين المادة التي لا حياة فيها وبين الكائنات الحية كالفارق بين الصفر والواحد بينهما أعداد لا تعد ولا تحصى.
مصادر للتوسع في الموضوع:
Clyde A. Hutchison III et al. Design and synthesis of a minimal bacterial genome, Science, Vol 351, Issue 6280, 25 March 2016
https://science.sciencemag.org/content/351/6280/aad6253.full
“سلسلة علمية تحاول القاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة والتي مازال العلم يسبر أغوارها ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها… كيف نشأت الحياة؟”