استطاعت النظرية العلمية التي أرجعت تكون المركبات العضوية الأولية إلى الفضاء أن تحل إشكالية كبيرة في مسألة الفترة الزمنية الفاصلة بين تكون الكرة الأرضية ونشأة الحياة على هذا الكوكب؛ إذ إنَّ المدة الفاصلة بينهما لا تسمح للعوامل الطبيعية الصرفة بتكون المركبات العضوية من مركبات لا عضوية، فضلا عن تكون مركبات عضوية معقدة كالتي نحتاجها لتفسير نشوء الحياة على هذا الكوكب.
وكما أشرنا سابقا، فإنَّ بعض الشُّهب والنيازك تحمل بعض المركبات العضوية، ومن أهم هذه المركبات الأحماض الأمينية، والتي تعد اللبنات الأساسية لتكوين البروتينات، لذا فهناك نظريات علمية تولي أهمية خاصة لتكون البروتينات واعتبارها بأنها أولى المركبات الكيميائية المهمة التي تكونت لنشوء الحياة.
لكن جميع النظريات العلمية التي حاولت الإجابة عن تكون المركبات العضوية الأساسية لنشوء الحياة عجزت عن تفسير وجود أصناف معينة من الأحماض الأمينية وهي المركبات التي تعرف بالصورة اليسارية للأحماض الأمينية.
وكما قلنا سابقا إن الكربون هو العمود الفقري لجميع المركبات العضوية ومن خصائصه المميزة أنه يكون أربع روابط كيميائية؛ لذا فهو يستطيع أن يرتبط بأربع ذرات أو مجموعات كيميائية في آن واحد؛ فإذا ارتبط بأربع مجموعات أو ذرات مختلفة عبر عن ذرة الكربون بأنها ذرة غير متناسقة، ويكون لهذا المركب مركب آخر شبيه له تماما ويعرف بأنه مشابهة ضوئية للمركب الأول، ويقصد بالمشابهة الضوئية مركب كيميائي عضوي آخر يحمل التركيبة الكيميائية ذاتها التي يحملها المركب الأول، لكنه صورة مرآتية للمركب الأول، وربما يغفل الكثيرون عن ملاحظة أن الصورة المرآتية ليست هي صورة طبق الأصل بل هي صورة يعبر عنها بأنها معكوسة لأنها تنتج من انعكاس لصورة الأصل؛ فهي مماثلة للأصل، ولكن يمينها يصبح محل يسارها والعكس، والأحماض الأمينية أيضا لها صورتان يمينة وصورة أخرى يسارية، والصورتان هما مركبان مختلفان، لكنهما متشابهان تماما في خصائصهما الكيميائية، إلا أن تفاعلهما الكيميائي في حالات معينة ينتج منتجات مغايرة تماما؛ فإذا استخدمت الصورة اليمينية بدل الصورة اليسارية في بعض التفاعلات لن تحصل على أي منتج، أو ربما تحصل على منتج مغاير تماما.
ومن أشهر الحوادث التاريخية المرتبطة بهذا النوع من المركبات العضوية والتي لها صورتان يمينية ويسارية: مركب عضوي يطلق عليه ثاليدومايد، وهو دواء فاعل ضد القيء الذي يصيب الحوامل؛ لذا فقد كان يقدم لهن أثناء الحمل وأدى ذلك إلى ولادة أكثر من عشرة آلاف طفل مشوه وذلك بين عام 1957 وعام 1962 ميلادية؛ لأنَّ الدواء كان يعطَى كخليط مكوَّن من الصورتين اليمينية واليسارية، بينما في الواقع فإن إحدى الصورتين للمركب هي الصورة الفاعلة والمضادة للقيء، بينما الصورة الأخرى كانت هي السبب وراء التشوهات الجينية.
… إنَّ الغبار الفضائي الذي تحدثنا عنه سابقا يحتوي على خليط بنسب متساوية من الصورتين اليمينية واليسارية للحمض الأميني، لكن الغريب في الأمر أن جميع الخلايا الحية في جميع الكائنات الحية ودون أي استثناء لا تحوي الصورة اليمينية للحمض الأميني، فجميع الأحماض الأمينية الموجودة في الطبيعة هي من صنف واحد فقط والذي يعبر عنها بالصورة اليسارية، ولا أثر للصورة اليمينية.
وهذا بدوره أدى إلى أن تكون جميع البروتينات من وحدات من الأحماض الأمينية من صورة واحدة للحمض الأميني، وهي الصورة اليسارية وليس الاثنين معا.
وكما ذكرنا آنفا، فإنَّ جميع التفاعلات الكيميائية المقترحة، والتي تحاول أن تفسر نشأة الحياة وتكون المركبات العضوية الأولية أنتجت أحماضا أمينية تحوي خليطا مساويا من صورتي الحمض الأميني اليميني واليساري؛ وهي بالتالي تواجه تحديا كبيرا وتعجز تماما عن تفسير وجود الصورة اليسارية فقط في الخلية الحية وانعدام الصورة اليمنية.
لقد تمَّ تصميم الأحماض الأمينية بدقة بالغة، واختيار دقيق؛ بحيث تم استخدام صورة واحد منها وهي الصورة اليسارية فقط، وتم اختطاف الصورة اليمينية من المسرح ولم يترك الخاطف أي أثر!
إذا استطعت أن تجد حلا لهذا اللغز وتكشف عن سر اختفاء الصورة اليمينية للأحماض الأمينية من مسرح الحياة، فستكون -وبلا أدنى شك- أحد المرشحين لنيل جائزة نوبل للكيمياء في السنة المقبلة، واذا تفضَّلت وأبلغتني عن الحل سنتقاسمها سويًّا.
مصادر للتوسع:
Designing the Molecular world – Philip Ball
نشأة الحياة والقفاز الأيسر.. حكاية تتحدَّى علماء الكيمياء، مجلة “شرق غرب”، العدد ٦ – حيدر أحمد اللواتي
Creation, How Science Is Reinventing Life Itself – Adam Rutherford
“سلسلة علمية تحاول القاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة، والتي لا يزال العلم يسبر غورها ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها… كيف نشأت الحياة؟”.