أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
يشكل عام 1530م منعطفاً مهمًا في تاريخ علوم الطبيعة، ففيه تجرأ أحد علماء الطبيعة وسدد أول ضربة إلى عرش الكنيسة عندما أعلن في مقالة مختصرة له أنَّ الأرض والكواكب الأخرى هي التي تدور حول الشمس في مدارات دائرية؛ ولهذا فلا يُمكن أن نعد الأرض مركزاً للكون بل الشمس هي مركز الكون والقمر هو جرم سماوي يدور حول الأرض والتي هي بنفسها غير ثابتة وتدور حول محورها.
وبهذه الاكتشافات العلمية فإن كوبرينكس ضرب وبعنف أفكار أرسطو فلم تنهار المنظومة العلمية فحسب بل انهارت حتى بعض آرائه الميتافيزيقية؛ فأرسطو جعل من القمر فاصلاً لهذا الكون إلى مرتبتين: عالم ما تحت القمر وعالم ما فوق القمر: أي عالمنا وعالم النجوم والكواكب، واعتبر عالم ما تحت القمر عوالم سفلية تتغير وتفنى، بينما عدَّ عالم ما فوق القمر عوالم علوية حيث الكمال والثبات، ولم يعد في الكون المادي ما يشير إلى الكمال والثبات فالقمر لم يعد سوى جرم سماوي كغيره من الأجرام بل هو تابع للأرض يدور حولها.
تردد كوبرينكس كثيراً في نشر آرائه ونظريته بإسهاب وذلك خشية التصادم مع الرؤية السائدة حول مركزية الأرض ولكن وبعد إصرار من زملائه قام بجمع نظريته حول مركزية الشمس في كتاب له أسماه “الثورة” وسلمه للطباعة في 24 مارس عام 1543م وتوفي كوبرينكس مساء ذلك اليوم وطبع كتابه بعد وفاته.
اللافت في الأمر أنَّ التخوف الذي أبداه كوبرينكس من ردة فعل الكنيسة لم يحدث فعلى الرغم من اعتراض بعض رجال الكنيسة على آرائه إلا أن الأمر لم يصل إلى أكثر من بعض الانتقادات الكلامية والسبب لربما يكون أن رجال الكنيسة اعتبروا أنَّ ما طرحه كوبرينكس ما هو إلا نموذج رياضي لا يمت إلى الواقع بصلة وغايته التصدي لمواجهة بعض من التحديات العملية.
وجاء من بعده عدد من العلماء الذين تبنوا آراء كوبرينكس ومن أشهرهم جوردانو برونو (١٥٤٨-١٦٠٠) وكبلر (١٥٧١-١٦٣٠) وجاليليو (١٥٦٤-١٦٤٢)، ولم يتعرض كبلر لمضايقات تذكر من رجال الكنيسة على الرغم من أنه حول النموذج الرياضي إلى قوانين عملية ولم يعد ما ذكره كوبرينكس نموذجا رياضيا فحسب، وعلى النقيض فلقد واجهت الكنيسة برونو مواجهة عنيفة فقد تمَّ حرقه حياً وواجهت العالم الشهير جاليليو أيضًا مواجهة عنيفة وفرضت عليه الإقامة الجبرية وأجبرته على التراجع عن آرائه.
وسنحاول في هذه العجالة أن نتعرض لأسباب هذا الموقف المتشدد للكنيسة من برونو وجاليليو على الرغم من تسامحها اللافت للنظر مع كوبرينكس وكبلر.
فإذا كانت آراء برونو وجاليليو العلمية هي التي أثارت الكنيسة فلماذا لم تثر الكنيسة على آراء كوبرينكس وكبلر ولم يتعرضا للمضايقة التي تعرض لها كلا من برونو بحيث يتم حرقه حياً ويهدد جاليليو بذلك وتفرض عليه الإقامة الجبرية.
إنَّ المراجعة الدقيقة للأحداث توضح وبصورة جلية أن المسألة لم تكن مرتبطة بآراء برونو وجاليليو العلمية بل لآراء أخرى تبناها هذان العالمان والتي جعلتهما في مواجهة مباشرة مع رجال الكنيسة فبرنو دعا إلى رفع سلطة الكنيسة ورجال اللاهوت، كما أن جاليليو قام بتأليف عددٍ من الرسائل في الدين والتأويل، وانتقد احتكار كهنة الكنيسة لتفسير الإنجيل كما أنه طرح فكرة أن الإنجيل كتاب أخلاقي وغير معني بتفسير القوانين التي تسود الطبيعة وبالمقابل فقد أصرت الكنيسة بأنها السلطة الوحيدة المخولة بتفسير الإنجيل.
إننا نظن أنَّ هذه الآراء الصادمة للكنيسة والجريئة من قبل برونو وجاليليو هي التي خلقت ردود فعل عنيفة من الكنيسة تجاه هذين العالمين وربما يعضد هذا الأمر مقارنة موقف الكنيسة من كوبرينكس وكبلر مع برونو وجاليليو بل وحتى موقف الكنيسة من جاليليو نفسه ففي عام 1611 ذهب جاليليو لروما، وأحسن البابا وقتها وفادته، وأحتفى به فلكيو المعهد الروماني على الرغم من أنَّه كان قد نشر كتابه «رسول النجوم» عام 1609 والذي صرح فيه بتبنيه لفرضية كوبرنيكوس عن مركزية الشمس ودوران الأرض حول محورها.
إلا أنَّ الكنيسة انقلبت على جاليليو عندما قام بالمطالبة بإصلاح الفكر الديني من خلال رفع سلطة الكنيسة عن الفكر والعلم وعدم تدخلهم في تفسير الظواهر الطبيعية وانتقدته بعنف بل وطالبته بالتراجع عن آرائه وأن يدعي أنَّ ما يطرحه من تصور للكون ما هو إلا نموذج رياضي ليس له واقعية، وتم مواجهة جاليليو إما بالتراجع عن أفكاره أو أن يلاقي مصير برونو وفضل جاليليو التراجع عن آرائه حفاظا على حياته، حيث قال ضمن مقالته ” …سأمتنع عن طرح الأفكار الخاطئة وهي أنَّ الشمس مركز هذا الكون وأنها ثابتة وأن الأرض ليست مركز هذا الكون وأنها مُتحركة…” وعلى إثرها ظل جاليليو حيًّا ولكنه ظل حبيس منزله حتى توفي في التاسع من يناير عام 1642.