د. سلوى بنت عبد الأمير بن سلطان
إن غالبية الدول المتقدمة والنامية -على حدٍّ سواء- تعيد النظر في أنظمتها التعليمية في عصرنا الحالي؛ وتُولي اهتمامًا خاصًّا بإعداد المعلِّم في كليات التربية، وفي أثناء الخدمة؛ بسبب التحديات التي تواجهها من تقدم التكنولوجيا، وتوظيف التقانة في التدريس، وسرعة نمو العلوم والمعارف. هذا التسارع يحتاج مسيرةَ تغيير متسارعة في الميدان التربوي والتعليمي، وتؤكد دورَ المعلمِ الذي لم يَعُدْ مقتصرًا على التلقين ونقل المعرفة، بل تجاوزه ليكون قائدًا وموجهًا لتيسير المعرفة، والتخطيط للمواقف التربوية بعناية؛ وليساعد المتعلمين كي يتعلموا بأنفسهم، ويكونوا قادرين على التعامل مع طاقاتهم، وليقدمَ الخبرة التي يحتاجونها، ويكتشف مواهبهم ويعززها وينميها، ويهتم بالاتجاهات والقِيَمِ والمهارات والمعارف، ويعدهم لمواجهة التحديات الصعبة والتغيرات المتلاحقة.
كلُّ هذه المبررات تتطلب الاهتمام البالغ باختيار المعلمين، وتأهيلهم أثناء الخدمة، ومساندتهم في التحسين المستمر لأدائهم؛ لما لهم من دور مهم في تربية الناشئة، والعمل على تطوير العمليات التعليمية، وتحسين مخرجاتها.
ويحتاج التحسين المستمر في التعليم إلى اهتمام التربويين بتطبيق المداخل الإدارية المعاصرة، خاصة مدخل إدارة الجَوْدة الشاملة الذي يركز على تقديم أفضل الخدمات التعليمية، لكل المستفيدين من العملية التعليمية؛ عن طريق تحسين أداء الإدارة المدرسية، وأداء المعلمين في الصفوف، وإعادة النظر في القصور الموجود في المناهج الدراسية، وضمان الارتقاء بمستوى تحصيل التلاميذ الدراسي، والارتقاء بجميع جوانب العملية التعليمية والتعلمية؛ لتضمن جَوْدة مخرجاتها التي تضخها إلى الجامعات، ومنها إلى سوق العمل، لتعمل بكفاءة وإنتاجية تنفع المجتمع بأسْره، وتؤدي إلى تقدمه وَرُقِيهِ.
وقد بُدِئ بتطبيق الجَوْدة الشاملة في الحقل التربوي؛ نظرًا لما لاقاه من نجاحات في تحسين جَوْدة التعليم ونوعيته، ورفع مستوى تحصيل مخرجات التعليم، وتحسين أداء المعلمين ومديري المدارس، وتنمية كفاياتهم الشخصية والاجتماعية، والعمل على توفير احتياجاتهم التدريبية، وتطوير العلاقات القائمة على المعاملة الطيبة، والثقة المتبادلة، وتطوير برامج تسهم في تنميتهم المهنية، والاهتمام بنمو التلاميذ نموًّا ذاتيًّا.
وسنتناول في هذا الموضوع الجَوْدة الشاملة في التعليم، الذي يتسم بالحداثة في الدول العربية، فسنعرض فيه كيفية تطبيق هذا الأسلوب في الميدان التعليمي، والإفادة منه. وقبل التطرق لتعريف الجَوْدة الشاملة للتعليم، لا بد أن نجيب عن الأسئلة الآتية: ما مفهوم الجَوْدة الشاملة في التعليم؟ وما معاييرها؟
مفهوم الجَوْدة في التعليم
الجَوْدة في التعليم تعني: كافة الجهود المبذولة من قبل التربويين لرفع وحدة المنتج التعليمي وتحسينه، بما يتناسب ورغبات المستفيدين، ومع قدرات المنتج التعليمي وسماته وخصائصه (مجيد، والزيادات، 154: 2008).
ويمكننا أنْ ننظر إلى مفهوم الجَوْدة في التعليم من عدة جوانب؛ من بينها: منظور تحقيق الأهداف، ومنظور نظرية النظم، ومنظور القيمة المضافة (Added Value).. فمن منظور تحقيق الأهداف، أشار العامري إلى أن الجَوْدة في التعليم تعني: “أداء العمل بأسلوب صحيح مُتْقَنٍ، بحسب مجموعة من المعايير التربوية الضرورية؛ لرفع مستوى جَوْدة المنتج التعليمي، بأقل جهد وكلفة، مُحققًا الأهداف التربوية التعليمية، وأهداف المجتمع، وسد حاجة سوق العمل من الكوادر المؤهلة علميا (العامري، 33:2011).
ومن حيث منظور نظرية النظم، عرَّفها البطاح على أنها “مجموعة من المعايير والخصائص الواجب توافرها؛ فجميع عناصر العملية التعليمية في المؤسسة التربوية، فيما يتعلق منها بالمدخلات والعمليات والمخرجات التي من شأنها أنْ تحقق الأهداف المطلوبة، للفرد والمؤسسة والمجتمع المحلي، بحسب الإمكانات المادية والبشرية” (بطاح، 125:2006). وعرَّفتها الفتلاوي على أنها “نظام متكامل يتكون من مجموعة معايير (مواصفات)، وإجراءات، وأنشطة، وإرشادات، تضعها الجهة المسؤولة عن التعليم، أو المؤسسة التعليمية نفسها؛ لتهتدي بها في تنظيم عملها، وتوفير خدماتها للمستفيدين بطريقة فاعلة” (الفتلاوي، 53:2007).
والملاحَظ أنَّ هذين التعريفين يُركِّزان على مفهوم إدارة النظم الذي يربط بين مدخلات العملية التعليمية وعملياتها ومخرجاتها؛ وبالتالي يُنْظَرُ إلى التلاميذ والمعلمين على أنهم المستفيد المباشر، بينما يعتبر أولياء الأمور والمجتمع المستفيد غير المباشر.
ومِنْ حيث مفهوم القيمة المضافة، تُعرَّف بأنها “مدى قدرة الخدمة التعليمية على تغيير التلاميذ باستمرار، وتطوير معارفهم وقدراتهم، ونموهم الشخصي، وتُحدَّد هذه القيمة بالمقارنة بين ما يمتلكه التلميذ من قِيَمٍ ومعارف ومهارات عند تخرجه، وما كان يمتلكه عند الالتحاق بالمؤسسة التعليمية: (مجاهد،41:2008)..
ومن أجل تيسير تطبيق مبادئ الجَوْدة في قطاع التربية والتعليم، لا بد من توضيح المصطلحات وما يقابلها في المجال التربوي؛ ففلسفة التربية، والمشرفون التربويون، ومديرو المدارس، والإمكانات المادية هي (المدخلات)، وسلسلة التفاعل بين المعلمين والتلاميذ في الفصول الدراسية هي (العمليات)، وتلاميذ ناجحون مستمتعون بالتعلم؛ ونتيجة الإحساس بتحقيق الذات، والتقدم نحو الأهداف المرجوة هي (المخرجات).
ويرى البكر أن أسس فلسفة الجَوْدة في التربية والتعليم قائمة على حقيقة مفادها: أن التلميذ لا يعد في الأصل المُنْتَج العائد، إنما المُنْتَجُ العائدُ هو ما يكتسبه منْ معارف تمكنه مِنَ القدرة على الفهم والإدراك العلمي، ومهارات تمكنه مِنَ القدرة على أداء العمل واحترافه، واكتساب القِيَمِ التربوية التي تساعده على أنْ يكون عضوًا منتجًا في المجتمع (البكر، 94:1990).
ونرى أن المستفيد الثانوي من خدمات المدرسة هم أولياء الأمور والمجتمع، فمن حق هؤلاء توقع نمو مدارك أبنائهم وقدراتهم ومهاراتهم، وتطور شخصياتهم ليصبحوا نافعين لأنفسهم وذويهم ومجتمعهم، ومسؤولية كل ذلك تقع على عاتق الجميع: المعلم، والتلميذ، والمدرسة، وأولياء الأمور، والمجتمع المحلي.. أيْ: أنها مسؤولية مشتركة.
وبناءً على ما سبق، نرى أن الجَوْدة في التعليم نظام شامل متكامل، يهدف للتحسين المستمر لكافة عناصر العملية التعليمية، ومن الملاحَظ أنه ونظرًا لنجاح التجربة اليابانية في الجَوْدة، وما أحدثته من ثورة عالميا، كان من الطبيعي أنْ تنتقل جميع هذه المفاهيم إلى المؤسسات التعليمية، وظهرت أهمية الجَوْدة في التعليم كفلسفة تهدف لتحقيق ثقافة التحسين المستمر للمنتجات وتطويرها؛ من أجل إرضاء المستفيدين، وكسب ثقتهم، والوفاء باحتياجاتهم الحالية والمستقبلية، عن طريق إتقان الموظفين العمل من أول مرة.. وفيما يأتي، نتناول بالتفصيل مفهوم الجَوْدة الشاملة في التعليم ومعاييرها.
مفهوم الجَوْدة الشاملة في التعليم
كان الأمريكي فيغنبوم أوَّل من أضاف كلمة كلية أو شاملة، في كتابه الصادر في العام 1950م، بعنوان “Total Quality Control”، وبذلك أصبح مفهوم الجَوْدة الشاملة (Total Quality)، واختصارًا (TQ)، هو المتداول في المؤسسات الصناعية والاقتصادية والخدمية (Slack & others, 76:1998).
وعرف الهاشمي الجَوْدة الشاملة في التعليم على أنها: التحسين المستمر للجَوْدة عبر الجهود المخططة التي تهدف للاستعمال الفعال للموارد البشرية والمادية، عن طريق الاهتمام بمدخلات المنظومة التعليمية، وعملياتها، ومخرجاتها؛ بحيث تتجاوز توقعات سوق العمل، وإكساب الأفراد القدرة على التعامل مع التغيرات العالمية؛ بما يلبي احتياجات المجتمع، على أنْ يعمل الجميع على تحقيق الأهداف (الهاشمي، والعزاوي، 146:2009). وأشار أحمد إلى أنها تعني: إيجابية النظام التعليمي؛ أي: أنه إذا نظرنا إلى التعليم على أنه استثمار قومي له مدخلاته ومخرجاته، فإن جودته تعني أنْ تكون هذه المخرجات بشكل جيد، ومتفقة مع أهداف النظام من حيث احتياجات المجتمع ككل في تطوره ونموه، واحتياجات الفرد باعتباره وحدة بناء المجتمع (أحمد، الجَوْدة الشاملة، 155:2007).
ويرى عليمات أن الجَوْدة الشاملة في مجال التعليم تعني الكفاءة والفاعلية معًا؛ لأن الكفاءة تعني: توظيف الإمكانات التعليمية المتاحة (المدخلات)؛ من أجل الحصول على مخرجات تعليمية معينة؛ أي: تحقيق المواصفات المطلوبة بأفضل الطرق وبأقل تكلفة، ويمثل هذا أحد الأسس التي ترتكز عليها الجَوْدة الشاملة. وفي الوقت نفسه، فإن الفاعلية تعني: تحقيق الأهداف أو المخرجات المطلوبة، والكفاية لا قيمة لها إلا إذا كانت لها نتائج مرغوبة في النهاية، أو بعبارة أخرى: الكفاية ضرورية للفاعلية، لكنَّ الفاعلية لا تتحقق بالكفاية وحدها (عليمات، 93:2008).
إنَّ مفهوم الجَوْدة الشاملة في التعليم له معنيان مترابطان؛ أحدهما: واقعي، والآخر: حِسي؛ فالجَوْدة بمعناها الواقعي تعني: التزام المؤسسة التعليمية بإنجاز مؤشرات ومعايير حقيقية متعارفة عليها؛ مثل: معدلات الترفيع، والكفاءة الداخلية الكمية، وتكلفة التعليم. أما المعنى الحسي للجَوْدة، فيتركز على رضا المستفيدين من الخدمات التعليمية؛ فإذا شعر المستفيدون بأن الخدمات التعليمية تناسب توقعاتهم، وتلبي احتياجاتهم الذاتية، فإنه يمكن القول: إن المؤسسة التعليمية قد نجحت في تقديم الخدمات بمستوى يلامس المشاعر الحسية لمستفيديها.
ولكي تستطيع أية مؤسسة تعليمية الاعتناء بالجَوْدة، عليها أنْ تقوم ببناء خطة متكاملة لتنفيذ التغيرات المطلوبة، من تطوير في البرامج التعليمية، وحسن اختيار المعلمين، وإقناع جميع مَنْ في المؤسسة بأهمية التغيير، والعمل على نشر ثقافة الجَوْدة، وتقديم الحوافز المعنوية والمادية، لتصبح الجَوْدة في النهاية جزءًا أصيلًا من عملهم، ورؤيتهم المستقبلية، ونتيجة طبيعية لالتزام الجميع بكامل إرادتهم في إتقان عملهم، وهذا يعني التزامها بمعايير ثابتة.. وفيما يأتي نتناول معايير الجَوْدة الشاملة.
معايير الجَوْدة الشاملة في التعليم
المعيار في اللغة هو: كل ما اتُّخِذَ أساسًا للمقارنة والتقدير (أنيس، 639:1972). أما اصطلاحًا، فقد عرَّفها مجاهد بأنها: مجموعة من العبارات المحدَّدة تحديدًا دقيقًا، وبطريقة علمية، تشمل جميع عناصر المنظومة التعليمية التي توظفها المؤسسة التعليمية في الحكم على مدى جَوْدة برامجها الأكاديمية، ومراجعة الأداء وتقويمه بشكل دوري، ومقارنة مستوى الأداء فيها بأداء المؤسسات الأخرى، واتخاذ الإجراءات اللازمة لعملية التطوير المستمر (مجاهد، 5:2008).
وتكون المعايير عادةً وطنيةً تضعها الجهات العليا، وقد تَضعها هيئات عالمية خاصة بالاعتماد الأكاديمي، تمتلك سلطة رسمية في حكمها، وهناك مَنْ يرى أن وضع المعايير هو مسؤولية جماعية، لا يعتمد على مجموعة بعينها؛ إذ يشارك في وضعها الآباء والمعلمون، وممثلو التعليم العالي، والمعنيون في المدارس، على أن تزوِّد المؤسساتُ التربوية هؤلاء الأفراد بالمعلومات والأدوات التي تُمكِّنهم من فحص نظامهم التربوي (الهاشمي، والعزاوي، 342:2009).
ويُمكن الحُكم على توافر جَوْدة التعليم على أساس جَوْدة كلٍّ مِمَّا يأتي: القيادة التربوية والتشريعات، ومؤهل أعضاء هيئة التدريس، والأعمال المساندة وسلوكهم، والمكتبات المدرسية وأمنائها، والبرامج التعليمية من حيث العُمق والشمولية والتكامل والمرونة، وموافاتها لمتطلبات العصر وتحدياته، والأهداف التعليمية، وتكنولوجيا التعلم، وطرائق التدريس، والخدمات الطلابية، وتقويم التعليم، والإنفاق على التعليم في كل ما يخص تجهيزات المباني، والإشراف التربوي، وتقييم أداء التلاميذ، واهتمام القيادة الإدارية بالتخطيط الإستراتيجي، وتكوين علاقات عمل فعالة بين المعلمين، وضمان السياسات التي تتخذها الإدارة، وتوافر مداخل فعالة لتقييم أداء المعلمين والتلاميذ، وتطبيق أساليب جيدة للرقابة الداخلية والخارجية، وتوظيف الرقابة الذاتية في تقييم أداء الموظفين (الطس، 86:1430هـ).
وتعدُّ الرقابة الداخلية نوعًا من الرقابة التي تمارسها المدرسة على أوجه النشاط الذي تؤديه، وتمتد لتشمل جميع العمليات التي تقوم بها، كما تمتد لتشمل مستويات التنظيم المختلفة. أما الرقابة الخارجية، فهي ذلك النوع الذي يتم بوساطة جهاز مركزي مستقل، وينصرف هذا النوع للرقابة على الأمور المتعلقة بالسياسات والقوانين، أكثر من اهتمامه بالجوانب التخصصية والفنية (قطب، 63:2008).
والرقابة وظيفة من وظائف الإدارة، وتعني: قياس أداء المرؤوس؛ للتأكد من أهداف المنشأة والخطط الموضوعة التي قد تحققت؛ أيْ: التحقق ممَّا إذا كان كل شيء يحدث طبقًا للخطة الموضوعة، والتعليمات الصادرة، والمبادئ المحددة. والغرض من ذلك كله الانتباه لنقاط الضعف والأخطاء؛ بقصد معالجتها، ومنع حدوثها (الأسدي، وإبراهيم، 230:2007).
ويُمكن قياس ضمان الجَوْدة الشاملة بالاطلاع على نتائج المدرسة في الامتحانات الوطنية، كما يمكن للمدارس اختيار كيفية تحديد مستوى أداء تلامذتها في المهارات والكفاءات وتقويمه، طبقًا للمؤشرات المُعْتَمَدَة من وزارة التربية والتعليم، فإذا كنا نريد أنْ نضمن جَوْدة المعايير السابقة، فلا بد من أنْ نؤهل قيادات تربوية من مديري المدارس، ومشرفين تربويين ملتزمين بمعايير الجَوْدة الشاملة، وعاملين مُدرَّبين، ونظام اتصال فعال، وتطبيق رشيد لمفهوم المساءلة من أجل المحاسبة (Accountability)، وإلمام بطموحات المستفيدين، ومناخ تنظيمي حافز وإيجابي، يُثير دوافع المعلمين للعمل، وفهم حاجاتهم وإشباعها بأقل تكلفة ممكنة، عن طريق تحويل المدارس إلى مجتمعات مهنية تعليمية تعمل على تنمية مهارات معلميها بجهودها الذاتية.
وقد أشار ماوش (Mauch) إلى أن هناك أنواعًا من الحاجات تؤثر في الدافعية لدى العاملين في المؤسسة، تختلف من موظف إلى آخر؛ منها: الحاجة للانتماء، وهي تعكس حاجة العاملين لأنْ يكونوا محترَمين ومحبوبين من الآخرين، ويقوموا ببناء علاقات اجتماعية متينة معهم. والحاجة للإنجاز، وتعكس حاجة العاملين للعمل من أجل النجاح. والحاجة إلى السلطة، وتعكس حاجة المعلمين للتأثير في الآخرين والسيطرة عليهم. ويرى أن الدافعية تبدأ من القائد؛ إذ عليه أنْ يعمل على تهيئة بيئة توفر حاجات العاملين، مراعيًا ظروف كل عامل على حدة (Mauch, p87-90,2010).
ولمَّا كانت الإدارة هي الأساس لنجاح أي مشروع، والمُوَجهُ الأساسي للجهود الإنسانية، وعملية تتضمن تنظيم الموارد البشرية والمادية، وتوظيفها التوظيف الأمثل بأعلى كفاءة، وأقل تكلفة ممكنة؛ من أجل تحقيق الأهداف؛ فقد ظهر نوع من الارتباط الوثيق بين إدارة التعليم وإدارة الجَوْدة الشاملة، وظهرت نظريات تختص بذلك، منذ الثمانينيات، وازدهرت في التسعينيات (عابدين،21:2001).
ومن هنا، ظهرتْ الحاجة لإدارة تهتم بالجَوْدة الشاملة، وتلعب دورًا كبيرًا في تلبية احتياجات المعلمين حسب حاجاتهم، بقيادة المشرفين التربويين الذين يقومون بإعداد خطة تنظم أعمالهم، عبر جلسات العصف الذهني، والرجوع للنظام التعليمي، والأدب التربوي؛ بُغية الوصول لجَوْدة الإشراف التربوي؛ فتطبيق مدخل الجَوْدة الشاملة في المؤسسات التعليمية يتأثر بوجود قيادات عليا، وأشخاص مؤهلين في مجال الجَوْدة الشاملة، ومدى فهمهم للإرشادات والمتطلبات الواردة لتفعيل آليات ضمان الجَوْدة الشاملة، وقيادة قوية متمتعة ببصيرة ثاقبة، تنقل كل ما هو جديد في التربية إلى أرض الواقع.
وقد مرَّت إدارة الجَوْدة الشاملة بثلاث مَوْجات؛ بدأ أولها عندما أدخل ديمنج (Deming) مفهوم الجَوْدة إلى اليابان في الخمسينيات. وظهرت الموجة الثانية عندما بدأت الأعمال والصناعات الأمريكية بتطبيق أفكار إدارة الجَوْدة الشاملة في الثمانينيات. والآن، نشهد الموجة الثالثة في مجال التربية والتعليم، والتعليم العالي (الخطيب، والخطيب، 14:2004).. فما مفهوم إدارة الجَوْدة الشاملة؟
مفهوم إدارة الجَوْدة الشاملة
مِنَ الملاحَظ أن مصطلح “إدارة الجَوْدة الشاملة”، كما هو واضح، يتكوَّن من ثلاثة عناصر: الأول هو “الإدارة”؛ ويعني التطوير والمحافظة على إمكانات المنظمة لتحسين الجَوْدة. والثاني: الجَوْدة؛ وتعني أداء العمل بمستوى متميز يلبي حاجات المستفيدين وتوقعاتهم. والثالث: “الشاملة”؛ وتعني تطبيق البحث عن الجَوْدة في كافة جوانب العمل، وتتطلب مشاركة كافة الموظفين واندماجهم؛ وبالتالي التزامهم جميعًا (مكتب التربية العربي لدول الخليج، 10:1431هـ).
وعرف أرموند فيغنبوم (Armond Feigenbaum) إدارة الجَوْدة الشاملة على أنها: نظام فعَّال لتحقيق التكامل بين جهود جميع الموظفين في المؤسسة التي تتبنى تطوير الجَوْدة وتحسينها والمحافظة عليها؛ لتمكنه من القيام بالإنتاج، وتقديم الخدمات بأقل تكلفة، وتحقيق الرضا الكامل للمستفيد (Nigel Slack & others, 761:1998).
كما عرفها سليم على أنها: فلسفة إدارية حديثة، قائمة على أساس إحداث تغييرات جذرية للمنظمة؛ تشمل الفكر والسلوك والقِيَم، والمعتقدات التنظيمية، والمفاهيم الإدارية، ونظم العمل وإجراءاته؛ من أجل تطوير مكونات المؤسسة كلها؛ للوصول إلى أعلى جَوْدة في مخرجاتها، وبأقل تكلفة، هدفها تحقيق رضا المستفيدين، عن طريق إشباع حاجاتهم ورغباتهم بحسب ما يتوقعونه، بل وتخطي هذا التوقع (سليم، 41:2009).
ويُمكن استخلاص مفهوم لإدارة الجَوْدة الشاملة على أنها: فلسفة إدارية تعاونية، قائمة على مبادئ تهدف لتحسين الأساليب القيادية؛ عن طريق ترسيخ ثقافة التميز في الأداء، والتحسين المستمر لدى جميع الموظفين في المؤسسة؛ بهدف رفع كفاءة الخدمة بحيث تلائم المستفيد.
ومن الأهمية: التمييز بين مفهومي “الجَوْدة” و”إدارة الجَوْدة الشاملة”؛ فالأولى تعني: نوعية الخدمة المقدمة للمستفيد. أما الثانية، فهي عملية إدارية قائمة على عدد من المبادئ والإستراتيجيات، يُفترض أنْ تؤدي لتحقيق الكفاية والفاعلية معًا في المؤسسات؛ بحيث تسهم في إحداث تغيير في ثقافة المؤسسة، والهيكل التنظيمي، والنمط القيادي، ومناخ الإبداع، وتصميم العمليات؛ حتى تستطيع المؤسسة مواكبة مقتضيات العصر.
ونلاحظ -عبر مُراجعة أدبيات الجَوْدة الشاملة- اختلافَ مفهوم الجَوْدة الشاملة باختلاف القطاعات التي يتم البحث فيها؛ مثل: القطاع الصناعي، والتجاري، والصحي، والتعليمي.. والاختلاف في تناول المجالات المختلفة في القطاع الواحد؛ مثل: جَوْدة التعليم، وجَوْدة المعلم، وجَوْدة المنهج، وجَوْدة التدريب، وجَوْدة الإشراف التربوي…إلخ، وسنتناول في العدد المقبل مفهوم إدارة الجَوْدة الشاملة في التعليم، ومسوغات تطبيقها، وأهدافها.
—————————————————-
المصادر والمراجع
- أحمد (حافظ فرج)، “الجَوْدة الشاملة”، ط1، القاهرة، عالم الكتاب، 2007 م، (سلسلة كتب الإدارة 1).
- الأسدي (سعيد جاسم) وإبراهيم (مروان عبد المجيد)، “الإشراف التربوي”، ط1، الإصدار الثاني، عمان: دار الثقافة، 2007م.
- أنيس (إبراهيم) ورفاقه، المعجم الوسيط، ط2، القاهرة، دار المعارف، 1972م.
- بطاح (أحمد)، “قضايا معاصرة في الإدارة التربوية”، ط1، عمان، دار الشروق، 2006م.
- البكر (محمد بن عبدالله)، “أسس ومعايير نظام الجَوْدة الشاملة في المؤسسات التربوية والتعليمية”، المجلة التربوية (الكويت)، المجلد الخامس عشر، العدد 60، صيف 1990م.
- الخطيب (أحمد)، والخطيب (رداح)، “إدارة الجَوْدة الشاملة”، بلا طبعة، الرياض، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1425هـ/2004م.
- سليم (حسن مختار حسين)، “الإشراف الفني في التعليم”، ط2، مكتبة بيروت، القاهرة، 2009م.
- الطس (فيصل بن محمد)، “آراء المعلمين نحو تطبيق معايير الجَوْدة الشاملة في تدريس مادة المكتبة والبحث بالمرحلة الثانوية بمدينة جدة”، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1430هـ.
- عابدين (محمد عبد القادر)، “الإدارة المدرسية الحديثة”، ط1، عمان، دار الشروق، 2001م.
- العامري (محمد بن مبارك)، “مفهوم الجَوْدة”، مجلة التطوير التربوي، سلطنة عُمان، السنة العاشرة، عدد 66، نوفمبر2011م، ص:32-35.
- عبدالهاشمي (عبد الرحمن) والعزاوي (فائزة فخر)، “الاقتصاد المعرفي وتكوين المعلم”، ط1، الإمارات العربية المتحدة، 1430هـ/2009م.
- عليمات (صالح ناصر)، “إدارة الجَوْدة الشاملة في المؤٍسسات التربوية”، ط1، عمان، دار الشروق، 2008م.
- الفتلاوي (سهيلة كاظم)، “الجَوْدة في التعليم”، ط1، عمان، دار الشروق، 2007م، (سلسلة طرائق التدريس – الكتاب الثامن).
- قطب (منير بن محمد بن سعيد)، “إمكانية تطبيق أسس الجَوْدة الشاملة في إدارة وتنظيم النشاط الرياضي بمراحل التعليم العام بمدارس العاصمة المقدسة”، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1429هـ/2008م.
- مجاهد (محمد عطوة)، “ثقافة المعايير والجَوْدة في التعليم”، ط1، القاهرة، دار الجامعة الجديدة، 2008م.
- مجيد (سوسن شاكر)، والزيادات (محمد عواد)، “الجَوْدة في التعليم”، ط1، عمان، دار صفاء، 2008م.
- مكتب التربية العربي لدول الخليج، “برنامج تجويد التعليم في الدول الأعضاء بمكتب التربية العربي لدول الخليج”، بلا طبعة، الرياض، 1431هـ.
المراجع الأجنبية
- Slack ( Nigel) & Others, Operations Management, Second Edition, England : Pearson Education Limited, 1998.
- Mauch (Peter. D). – Quality Management: Theory & Application. USA, New York : CRC Press, 2010.