على الرغم من أنَّ البشرية اعتقدت ولقرون من الزمن أن أصل المواد التي نشاهدها من حولنا يرجع إلى الماء والهواء والتراب والنار، إلا أنَّ الملاحَظ أنَّ النار هي أكثر العناصر من بين هذه الأربعة والتي سُطِّرت حولها الأساطير في ذاكرة الحضارات المختلفة، وتم تقديسها في أخرى؛ بل عُبدتْ في بعض الحضارات.
فالحضارة اليونانية كانت تعتبر النار أداة مخصصة للآلهة في الأصل، إلّا أن حكيمًا يدعى بروميثيوس- وهو كما تزعم هذه الأسطورة اليونانية جاء من عرق من الآلهة التي حكمت الأرض في عصر من العصور القديمة- قام بسرقتها وتسليمها للإنسان حبًا فيه، كما إنَّ بعض الحضارات اعتبرت النار رمزًا لتطهير وتنقية الروح، فيما حظيت بالتقديس في حضارات أخرى، فكما هو معروف أن المجوس اعتبروها إلهًا وقدسوها أيُّما تقديس.
وربما يرجع سبب التقديس إلى الطبيعة الغامضة لها؛ فالملاحظ في التاريخ البشري أن الأمور الغامضة كثيرًا ما تُضفَى عليها هالة من القدسية وتُنسج حولها الأساطير وتصبح مادة خصبة لذلك؛ بل الملاحَظ أن النار ما زالت تُستخدم في عدد من المناسبات التي تتصف عادة بمحاولة تواصل مع العالم الآخر من الجن أو الأرواح الشريرة أو لفك السحر، فنجدها حاضرة عند المشعوذين والدجالين وفي الطقوس المرتبطة بإحضار الأرواح والشياطين.
وظلت النار لغزًا كبيرًا لمدة طويلة من الزمن، فما طبيعتها؟ وما طبيعة اللهب الذي نلاحظه عندما نشعلها والذي نصفه بالنار؟
لقد استغرق الأمر قرونًا عديدة للكشف عن طبيعتها، وبدأت الأمور تتضح رويدًا رويدًا؛ إذ تبين أولًا أن النار تحتاج إلى الهواء لكي تستمر في الاشتعال. وبعد ملاحظات وتجارب متعددة لاحظ العلماء أن الهواء- والذي كان يُظن أنه عنصر مفرد- عبارة عن خليط من غازات مختلفة وليس عنصرًا مفردًا، وبذلك بدأت النظرية اليونانية والتي ظلت تُهيمن على الفكر البشري لعشرات القرون تنهار تحت مطارق التجارب العلمية الدقيقة، وتبين لنا لاحقًا أن الهواء مركب من غازات عدة؛ أهمها: الأوكسجين والنيتروجين، وأن الاشتعال يتم بوجود غاز الأوكسجين والذي يشكل 25% من الهواء.
ومع تطور البحث العلمي كشفت لنا علوم الكيمياء عن حقيقة النار؛ إذ تبيَّن لنا أن النار ذات طبيعة مادية، فهي تفاعلٌ كيميائيٌ سريعٌ بين الأوكسجين والوقود الذي يحتوي في العادة على الكربون، ويؤدي ذلك إلى سلسلة من التفاعلات؛ لينتج عددًا من الغازات مع حرارة عالية وضوء، فالنار ما هي إلّا غازات متصاعدة مع درجات حرارة عالية وضوء، فهي ذات طبيعة غازيّة، ويعد مايكل فارادي أول من سلط الضوء بشكل مفصل على طبيعة النار في 6 محاضرات طرحها بعنوان “التاريخ الكيميائي للشموع” عام 1849م. كما إن درجة حرارة اللهب ليست ثابتة؛ فهي تعتمد على الوقود، وعلى نقاوة الأوكسجين المستخدميْن في عملية إنتاج اللهب. فمثلًا عند استخدام وقود الأستيلين مع الهواء فإنَّ درجة حرارة اللهب قد تصل إلى 2700 درجة مئوية، بينما لو استخدمنا الأوكسجين النقي بدلًا عن الهواء فإن درجة الحرارة الناتجة من نفس الوقود قد ترتفع لتصل إلى 3100 درجة مئوية، كما تبين لنا لاحقًا أن الشمس والنار المتكوِّنة منها تختلف تمامًا عن النار التي نتعامل معها في حياتنا اليومية، فالنار التي نتعامل معها هي نار ناتجة عن تفاعل كيميائي ولذا فهي نار كيميائية، بينما الشمس نتيجة لتفاعلات نووية، ولذا يصح أن نسميها نارًا نووية، ولا علاقة لها بالنار الناتجة من التفاعلات الكيميائية؛ فالنار المكونة للشمس لها حرارة رهيبة لا تُقارن بالنار التي نتعامل معها في حياتنا اليومية.
ومع تطوُّر العلوم أمكننا اكتشاف نار من نوع ثالث، وهي ذات طبيعة مختلفة تمامًا عن النارين التي أشرنا لهما (النار الكيميائية والنار النووية) وتعرف بالبلازما، وهي نار يكون فيها الغاز المستخدم حاملًا لشحنة موجبة، ولذا فميكنة إنتاجها قائمة على هذا الصنف من الغاز والذي يُعرف بـ”الغاز المتأين”.
وهكذا.. وبعد رحلة طويلة كشف العلم عن غموض النار وكشف عن طبيعتها المادية، لكن العلم لم يستطع أن يُزيل القدسية عنها وما زال هناك من يرى فيها بُعدًا مقدسًا عجز العلم عن كشفه، ولذا ما زالت النَّار عند بعض المجتمعات البدوية تتعامل مع الصادق بصورة مختلفة عن الكاذب؛ فهي لا تحرق لسانه لصدقه، بينما تحرق لسان الكاذب لكذبه، لذا يُحتكم إليها عند النزاع!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس