Image Not Found

عندما تنهار البديهيات!! (9): الغوص في أعماق المادة

Visits: 11

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي – الرؤية

ذكرنا فيما مضى أنَّ الإنسان استطاع أن يتعرَّف على مكونات الذرة وتحقق من أنَّها تتكون من ثلاثة جسيمات رئيسية وهي البروتون والنيوترون والإلكترون.
لكن.. هل هذه الجسيمات الثلاثة جسيمات أولية أم إنها أيضاً تتكون من جسيمات أخرى أصغر منها؟!
للإجابة على هذا التساؤل حاول العلماء أن يستخدموا فكرة تقليدية يعرفها جميعنا، فلو افترضنا أنك حصلت على حجر صلب، وتريد أن تعرف صلابة هذا الحجر، فيمكنك ذلك من خلال قذفه بقوة على جسم صلب وقوي كحائط المنزل، فإذا لم يتفتت فستعلم بأنَّ هذا الحجر صلب ويصعب تفتيته، بهذا المفهوم حاول العلماء أن يتحققوا من جسيمات الذرة، فمن خلال ارتطام هذه الجسيمات وهي قادمة بسرعة بالغة بأجسام ثابتة أو بجسيمات أخرى قادمة بالسرعة ذاتها سيتضح لنا ما إذا كانت هذه الجسيمات جسيمات مصمتة أم أنَّها ستتفتت إلى جسيمات أصغر منها.
ولأنَّ تفتيت هذه الجسيمات الذرية يتم من خلال تسريع هذه الجسيمات بسرعات عالية سميت الأجهزة المُعدة لهذا الغرض بالمسرعات وكان الهدف أن نصل بسرعات هذه الجسيمات الذرية إلى أعلى السرعات الممكنة، والتي نستطيع من خلالها أن نفتت هذه الجسيمات ونتحقق من كونها جسيمات مصمتة أم لا.
وكان العالم الإيرلندي وأرنست والتن هو أوَّل من استطاع القيام بتسريع هذه الجسيمات وذلك عام 1932م، وقام العلماء بعد ذلك بتطوير مسرعات مختلفة، وفي عام 1987م، استطاع المعمل الأوروبي لفيزياء الجسيمات (سيرن) بالقرب من جنيف إيصال سرعة البروتون إلى سرعة خيالية تعد من أقصى السرعات التي يمكن أن نصل إليها وتقدر بـ99.9999% من سرعة الضوء، أي ما يعدل 299,792,458 مترًا في الثانية.
ونتيجة لهذه التقنيات الرائعة والتي بلغت حداً ما كانت البشرية تحلم به في يوم من الأيام، استطعنا أن نصل ونغوص في عمق المادة ونكشف أسرارها.
ترى ما الذي توصلنا إليه؟ وما الذي شاهدناه؟ وما هي الكنوز المعرفية التي توصلنا لها؟
تبين لنا أنَّ البروتون والنيوترون اللذين كنَّا نعتقد أنهما من الجسيمات الأولية، ليسا كذلك؛ بل إنهما من الجسيمات المُعقدة والمكونة من ثلاثة جسيمات أصغر منها سنُطلق عليها الجسيمات الأساسية؛ وهي التي تسبب الشحنة الموجبة للبروتون والمتعادلة للنيوترون، أما الإلكترون الذي يحمل الشحنة السالبة فقد تبين أنَّه جسيم أساسي ولا يتكون من أي شيء آخر، ولذا فهو غير قابل للانقسام.
وتعرف الجسيمات المكونة للبروتون والنيوترون بالكوارك الأعلى والكوارك الأسفل.
واتَّضح من خلال الدراسات العديدة أن البروتون هو نتاج لتجمع اثنين كوارك أعلى وواحد كوارك أسفل، أما النيوترون فيتكون من كوارك أعلى واثنين كوارك أسفل.
أما السر وراء هذا الاختلاف في تكوين البروتونات والنيوترونات فيكمن في أنَّ هذا التكوين للبروتون سينتج لنا جسيماً يحمل شحنة معاكسة ومساوية تماماً لشحنة الإلكترون على الرغم من أنَّ كتلة البروتون تفوق كتلة الإلكترون بأكثر من 1800 مرة، كما إنه سينتج لنا النيوترون والذي يُعد جسيماً متعادلاً أي أنَّ شحنته تساوي صفراً، وبهذا تنتج لنا ذرة متعادلة الشحنة، وأي تجمع للكواركات بغير هذا الترتيب لن يولد لنا ذرة مُتعادلة ولذا لن ترى شيئاً من حولك بل حتى نحن لم نكن لنوجد.
ومن الخصائص العجيبة التي تمَّ التعرف عليها في جسيمات الكوارك أنها إضافة إلى أنها تملك شحنات موجبة وسالبة وبالتالي تشعر بالقوة الكهرومغناطيسية فإنها أيضاً تمتلك نوعا جديدا من الشحنات المميزة والتي تتحكم بقوى جديدة لم نكن نعرفها سابقاً وسميت بالقوى النووية القوية.
وهي قوى يصعب علينا تصورها لأنها لا تشبه أي شيء نعرفه فهي قوى من صنف لا نتعرض له في خبراتنا اليومية، ولهذا ولتبسيط الفكرة وتقريبها تم استخدام فكرة الألوان للتمييز بينها.
فكما نعلم بأنَّ هناك صنفين من الشحنات في القوى الكهرومغناطيسية شحنات موجبة وأخرى سالبة بينما في هذا النوع الجديد من الشحنات في الكوارك فهناك ثلاث أصناف من هذه القوى وهي الأحمر والأزرق والأخضر، فكل كوارك يحتوي على صنف من القوى النووية القوية فهناك الكوارك الذي يحوي القوى النووية الحمراء وآخر قوى نووية زرقاء وثالث على قوى نووية خضراء ومن المُهم التأكيد على أنَّ الألوان هي للتمييز بين هذه الأصناف الثلاث من القوى ولا علاقة للون بالكوارك على الإطلاق.
ولابد للبروتون الواحد أن يحوي الألوان الثلاث للقوى فلا يُمكن أن يتكون من لون واحد أو لونين بل لابد لكل كوارك من لون مختلف.
لقد اطلعت للتو عزيزي القارئ على معلومة ثمينة قضت البشرية أكثر من 2000 سنة وهي تسعى للوصول إليها، فهذا حد من حدود معرفتنا العلمية في الوقت الراهن، فنحن نعتقد أن هذه الجسيمات الثلاث وهي الإلكترون والكوارك الأعلى والكوارك الأسفل هي جسيمات أساسية لا تتكون من أي شيء وكل شيء في هذا العالم المادي والذي يمكن أن ندركه بإحدى حواسنا الخمسة مكون من هذه الجسيمات الثلاثة.
لقد كان أجدادنا الأوائل يظنون أنَّ عالم الطبيعة مكون من ماء، ونار وهواء وتراب، ثم وقبل عدة قرون تبين لنا أن عالم الطبيعة مكون من مركبات كيميائية والتي بدورها تتكون من ذرات.
وقبل حوالي 100 عام توصلنا إلى أنَّ الذرات تتكون من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات، ولم يمض وقت طويل حتى تبين لنا أنَّ عالم الطبيعة يتكون من ثلاثة جسيمات أولية لا رابع لهم وهي الكوارك الأعلى والكوارك الأسفل والإلكترون.
أنظر من حولك بفخر فأنت على دراية بأصل كل ما تراه وتحسه بيديك، وتعلم ما لم يعلمه الأولون.
المصادر الرئيسية:
1- The Large Hadron Collider, The Extraordinary Story of the Higgs Boson and Other Stuff That Will Blow Your Mind – Don Lincoln
2- Why the Universe Exists, how particle physics unlocks the secrets of everything – New Scientist

(عندما تنهار البديهيات سلسلة من مقالات علمية تهدف إلى نشر الثقافة العلمية بلغة مبسطة مفهومة تثير الخيال البشري وتجعله يحلق في فضاء رحب، بعيدًا عن مشاغل الحياة اليومية وصخبها).