Image Not Found

مبنى المنظومة الحقوقية في الإسلام «11 – 20»

Visits: 32

الشيخ هلال بن حسن اللواتي – الوطن

«11»

الخطوة الثانية: معرفة احتياجات هذا الإنسان، ومعرفة متطلباته فبعد أن تعرفنا على النفس البشرية نأتي الآن إلى معرفة احتياجاتها إن شاء الله تعالى، ففي حين عروجنا على تعريف النفس البشرية تبين لنا ماذا تحتاجه، وماذا ينبغي أن تحصل عليه، وماذا ينبغي الاجتناب عنه، ومكن تلخيص تلكم الاحتياجات بالنقاط التالية: استكمال نقصها الوجودي، والوصول إلى كمالها اللائق بها، وإعطاء كل قوة من تلكم القوى الأربعة ما يسد جوعها الوجودي، والإنصاف والموضوعية في توزيع المتطلبات بين القوى الأربع، وحل إشكالية التزاحم بين القوی الأربع، وإيصال القوة العقلية إلى موقعها الصحيح في مملكة النفس وإدارة القوى الأربعة بحكمة وصبر ومعرفة عالية المستوى من الدقة والعمق والحزم.

فمعرفة النفس قد أوقفتنا على احتياجاتها أيضا، فلاحظ أن احتياج هذه النفس مصدره ومنشؤه هو ما عليها هي من التربية والتصميم الخلفي، وبناء عليه .. لابد من الأخذ في بنود التشريع ما عليه هذه النفس البشرية، ومن خلال هذا يمكن تحقيق الحقوق ومشروعه وبنوده، وليس على مستوى الإنسان فقط بل وعلى مستوى جميع الكائنات.

الخطوة الثالثة: تحديد حقوق الإنسان، فإذا تعرفنا على (النفس) وتعرفنا على احتياجات هذه النفس فإن موضوع “حقوق” هذه النفس سوف تكون واضحة جدا، وغير مبهمة أبدا، فهنا ينبغي إعطاء النفس حقها في التكامل، وإعطاء القوى الأربعة حقها في التكامل، وتوزيع مهام القوى الأربعة بما يتلاءم وحقها وبشكل عادل، واختيار المعرفة الصحيحة الملائمة لاحتياجات هذه النفس وبما ينسجم وحقهاء وتذليل الصعاب التي قد تعترض دون مسيرة تكاملها، فهذا أيضا حق من حقوقها.

الخطوة الرابعة: تحقيق تلكم الحقوق، وبعد معرفة تلكم الخطوات وبعد معرفة الحقوق التي تجب للنفس فإن من أهم ما تحتاجه عملية (الحق والحقوق) هو: تحقيقها، وعدم الاكتفاء بسردها، أو تعريفها، أو وضعها على أرفف المكتبات، أو بتبادل الحديث عنها، أو مجرد كتابة مقالات حولها أو عنها، أو كتابة رسائل جامعية، فإن هذا لا يتعدى الجانب التنظيري للحقوق، والناس محتاجة إلى البعد العملي، وإلى تفعيل تلكم النظريات على أرض الواقع، وأن تجد أثرا ملموسا في حياتها، وإضافة إلى هذا أن يكون مستوى البحث متناسبة للاحتياج الذاتي للإنسان ولما حوله من الكائنات وإلا فلن نجني ولن نحصد سوی الويلات.

ولكن يرد هنا بعض هذه التساؤلات المهمة: من يستطيع أن يحقق (حقوق الإنسان) على مستوى ذاته؟!، أهل بملك الإنسان معرفة كافية بهذه النفس البشرية؟! أهل تلك المعرفة الكافية لتحقيق (حقوق الإنسان) على مستوى ذاته؟!، أهل يملك المعرفة الصحيحة لتحقيقها أم لا؟!، وهل يملك أدوات التنفيذ في سبيل تحقيقها تنفيذا عادلا أم لا؟! بل هل يستطيع أن يحقق العدالة بين القوى الأربعة في مملكة نفسه أم لا؟! وهل يملك القدرة على ازاحة الموانع لتحقيقها أم لا؟!.

فكل هذه الأسئلة وما تعتمد من الأجوبة تساهم في تكوين أرضية تحقيق حقوق الإنسان على مستوى الذات
ولكن .. سیرد هنا سؤال مهم جدا، وهي: أهل لإعطاء النفس حقوقها أثر على الحياة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان أم لاء
فلو لم يكن هناك أي أثر فلماذا أتعب نفسي في معرفة هذه النفساء وفي معرفة حقوقهاء، واحتياجاتها!، فلأهتم فيما أنا أعانيه كإنسان اجتماعي في عالم تتزاحم فيها رغبات البشر، وتتصارع فيه الإرادات، وتتقاتل فيه النفوس.

الجواب: فلمعرفة ما للنفس من أهمية ومن أثر على الواقع الاجتماعي سوف نتعرض لعنوان مهم إن شاء الله تعالى في الحلقة المقبلة.

«12»

منشأ الاحتياج إلى (العدالة الاجتماعية): إن معرفة (عالم الذات والنفس) يعد مفتاحاً أساسياً بل ورئيسياً لأجل الوصول إلى (تحقيق الحقوق الإنسانية) بل وغير الإنسانية أيضاً، والآن سنحاول التعرف على علاقة هذه (الذات) وتحقيق العدالة فيها بـ(العدالة الاجتماعية) إن شاء الله تعالى، ولقد تعرفنا أن الإنسان يتكون من جنبتين .. والآن سوف نضع بعض اللمسات على تلك الجنبتين بلحاظ ما للبحث من المسائل المتعلقة بهما بإذنه تعالى.

المتطلبات الإنسانية: فبالنظر إلى حركة الإنسان في عالم متطلباته واحتياجاته لوجدناها تنقسم إلى قسمين، القسم الأول: المتطلبات المادية، والقسم الثاني: المتطلبات المعنوية.

فإما في المتطلبات المادية فقد اثبت وبنسبة كبيرة أنه استطاع أن يحقق لنفسه النمو والتنمية والتطور، فإن حاجته في الأمن والسلامة جعلته يتخذ من بيوت بسيطة بدائية بيوتاً تحفظه من الهوام والحيوانات الكاسرة ومن المطر والوديات .. إلخ، وكذا الحال في الثياب والأكل والنقل والاتصال وغيرها من الأمور المادية.

ولكنه .. في قسم المتطلبات المعنوية لم يتمكن أن ينجح كما استطاع النجاح في القسم الأول، فإنه وجد أن ما تطلبه فطرته من الكمال المطلق هو نفس ما تطلب فطرة غيره أيضاً، فوقع التزاحم في الحاجات والمتطلبات، ومنها انتقل الحال إلى التنافس ومن ثم إلى الصراع، وبعده إلى نشوب حرب بين بني البشر، واستدعى هذا الأمر إلى ضرورة وضع قانون ينظم الحياة الاجتماعية، فيحفظ حق الجميع، ويتمكن من وضع حل لحالة التزاحم، وبالتالي يقدم للجميع حلولاً قد تتطلب منهم أن يتنازل كل منهم بعض الشئ عن رغبته في الضروريات الحياتية فضلاً عن التنازل لكثير من الكماليات، وما كان معتمد القانون الوضعي في إرساء السلامة والسلام بين بني البشر سوى (العدالة)، والتي تعرف بـ(العدالة الاجتماعية).

فيتضح إذن أن مبدأ (العدالة) هو الحل لإشكالية التزاحم التي وقع البشر فيها في حياتهم الاجتماعية، ولكن .. سترد هنا مجموعة من التساؤلات المهمة، وسنختار إثنان منها وهما يحتلان الصدارة فيها: هل مبدأ العدالة خارج عن عالم (فطرة) الإنسان أم هو من صميم عالمه؟ وهل هذا المبدأ موافق لطبيعة ما تريده الفطرة من إشباع رغبتها الوجودية في تحقيق كمالها الذي صممت عليه منذ خلقتها أم لا؟.

فالسؤال الأول ناظر إلى أصل المبدأ، والسؤال الثاني ناظر إلى ما يمكن أن يحقق له هذ المبدأ من متطلباته الفطرية، أي أن السؤال الثاني يرى تمامية المبدأ إلا أنه ينظر إلى إمكانية تحقيقه، وبرغم أهمية هذا البحث إلا أن الجواب عليهما سيخرجنا عن مورد بحثنا، فاقتصر الكلام بإطلالة على السؤال الأول فقط.

إن أي مبدأ ذو جنبة (فضائلية) إيجابية لا يمكن أن يكون منتزعاً من خارج (الذات) ـ وقد تقدم بيانه سابقاً ـ فإن المحور في عالم التكامل هي (الذات)، فيبغي أن تكون هي علة الانتزاع لكل ما يحقق ذاتها، وإيجاد الإنسان لـ(مبدأ العدالة) في عالمه الخارجي ليس إيجاداً من عدم بل هو من رغبة من عالم ذات الإنسان، وهذا يكشف أن المرء في صميم تركيبته الوجودية يعرف حقيقة العدالة، وهي غير أجنبية عليه، بل هو منسجم مع حقيقتها وكنهها ذاتاً، وهذا الأمر سيوقفنا على حقيقة أخرى وهي: أن هذا الكاشفية توقفنا على كون (مبدأ العدالة) ينبغي أن يكون بحد الممارسة والتداول في داخل (مملكة الذات والنفس) أولاً وبالذات، وهنا سيطرح هذا التساؤل: هل تمارس (الذات) (مبدأ العدالة) في عالمها قبل خروجه إلى العالم الخارجي أم لا؟!، وإذا كان الجواب إيجابياً .. فكيف؟!. .. فهذا ما سوف نتعرض إليه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

«13»

(العدالة الاجتماعية) فرع (العدالة النفسانية): وصحت المقولة:(فاقد الشىء لا يعطيه)، فإن من كان فاقداً في نفسه صفة العدالة، فكيف يقدر على العدالة خارجها، فهو أمر محال، فإن وجود القوى الأربعة في النفس وهي تتجاذب فيما بينها على من يكون أميراً على مملكة النفس والقوة الوحيدة التي لها الحق لان تكون كذلك هي القوة العقلية، لأمر يدعو إلى اتخاذ تدابير تحقق العدالة فيها، فلكي تصل النفس الى موقع يؤهلها لإعطاء زمام (إدارة وقيادة مملكة النفس) لابد لها من إدارة الاختلاف بين هذه القوى الأربع وبشكل عادل، وهو ما يعبر عنه (إعطاء كل ذي حقٍ حقه)، فلكل قوة من هذه القوى النفسانية (حقوقاً وواجبات)، فلابد من تحقيقها وبشكلٍ عادل، بحيث لا يضر مصالح أي أحد منها، ولا أن يكون إعطاء هذه القوة حقها على حساب حق القوة الأُخرى، إضافة إلى أمر آخر وهو أن كل قوة من هذه القوى الأربع تحتاج في نفسها أيضاً إقامة العدالة، لأنها في نفسها تتصارع على حد الوسط ويتجاذبها الطرفان الإفراط والتفريط، فالنفس البشرية إذن تتصارع القوة النفسانية الواحدة فيما بينها، وفي الوقت نفسه تتصارع بين سائر القوى، ولهذا يعد جهادها الجهاد الأكبر، ويُعد هذا التصارع بين نفسها والتصارع بين بقية القوى مظهراً من مظاهر الحقوق، إذ لابد من تحقيق الحق والحقوق على مستوى ذاتها وعلى ومستوى بقية القوى ومن ثم تكون الانطلاقة إلى ما هو خارج هذه النفس، فإن الذي لا يستطيع أن يحقق العدالة في مملكة نفسه بين القوى الموجودة فيها فإنه لن يتمكن من تحقيقها بين الناس والعباد، فإن (العدالة الاجتماعية الظاهرية) التي تقع بين العباد هي مظهر من مظاهر (العدالة النفسانية الباطنية)، ونتيجة من نتائجها، وثمرة من ثمارها، وهي فرع لهذا الأصل.

وللإنسان أن يحقق هذه العدالة من خلال تسييس القوى تسييساً صحيحاً، حكيماً، عادلاً، وقد عبرنا عن هذا التسييس لهذه القوى تسيساً صحيحاً عادلاً بـ(فن ادارة قوى مملكة النفس)، فالذي لا يملك فن إدارة قوى نفسه، فإنه عاجز عن إدارة ما هو خارجها.

الشواهد النصية:
وإليك الآن بعض الشواهد النصية الواردة النصوص الشريفة، قال تعالى:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال تعالى:(الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)، وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).
وورد عن أمير المؤمنين علي ـ كرّم الله وجهه الشريف: الفضائل أربعة أجناس: أحدها الحكمة وقوامها في الفكرة، والثاني العفة وقوامها في الشهوة، والثالث القوة وقوامها في الغضب، والرابع العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس.
ملاحظة مهمة:

إن الآيات وما ورد من الأخبار أيضاً وإن كان الارتكاز المتعارف فيها انصرافها إلى (العدالة الاجتماعية) التي تشمل كل المجتمعات من الصغيرة إلى الدولية، إلا أنها مع قليل من التأمل نجدها صالحه للانطباق على (العدالة النفسانية)، والأمر سهل، وهذا ما نلمسه لدى الاعلام والفضلاء في مصنفاتهم، الذين أوردوا بعض الأخبار الشريفة بوجه شمولي يشمل العدالة بين القوى النفسانية، ما يشعر بل ويؤكد بأنها غير مختصة بالعدالة الاجتماعية فقط.

«14»

معرفة حقوق الإنسانية الذاتية أصل لمعرفة حقوق الإنسان الاجتماعية، والوصول إلى معرفة (حقوق الإنسان) الاجتماعية يضطرنا إلى المشي عبر ممر (حقوق الذات) أولاً، وهذا العنوان هو فرع ما تقدم من البيان حول كون (العدالة الاجتماعية) فرعٌ لـ(العدالة النفسانية)، فبعد البيان المتقدم يمكننا أن نقول كنتيجة منطقية بأن تحقيق (العدالة الاجتماعية)، وتوزيع الحقوق على الفرد والمجتمع؛ ومن دون الوقوع في إجحاف لحق هذا على ذاك لأمر يكاد أن يكون مستحيلاً صدوره ووقوعه من الإنسان نفسه.

تأصيل أزمة المنظومة الحقوقية الوضعية في المجتمع الإنساني: وفي متعلق هذا العنوان سنجد الأزمة الإنسانية تزداد عمقاً وتعقيداً، فخيارات الحل ليست تحت متناول الإنسان ما دام يجهل النفس، ويجهل إحتياجاتها، فمن كان هكذا حاله فكيف سيتمكن من وضع حلول لأزمته؟! وكيف سيقدر على وضع قوانين حفظ الحقوق وتأمينها؟! وكيف سيستطيع الأخذ بمن يتجاوز عليها؟!.

ولنتعرف على الأزمة التي يعيشها (نظام الحقوق) برمته في هذا القانون الوضعي، وكيف أن محاولاته كلها تبوء بالفشل الذريع!، ويكون ضحيتها (الإنسان) الذي يفترض أن يضمن جميع حقوقه الإنسانية!. العدالة الاجتماعية: لقد نادى الإنسان بضرورة تشكيل قانون يضمن له العدالة، ويأخذ حقه الذي يستحقه، ولاحظ أن النفس الإنسانية إذا ما وقعت في مشكلة ما فإن أول ما تفكر به هو خلاص نفسها من تلكم المشكلة ومن ثم قد تفكر في الآخرين وقد لا تفكر فيهم ـ وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى ـ وإن كان اللجوء إلى الحياة الاجتماعية يصبح أمراً مهماً، فأساس طلب الإنسان لتشكيل العدالة الاجتماعية هو: تأمين وتحقيق حاجاته أولاً وبالذات، وضمان وصولها إليه بالخصوص، ولا يهمه إن كانت هذه يد العدالة تصل إليه في روح اجتماعية وبسنن المجموع، ومن بعده وفي رتبة ثانوية يكون الآخرون اهتمامه، وإذا ما تعرض الإنسان لظلم الآخرين له فإن (العدالة الاجتماعية) هي الرادع للجاني بوضع قوانين تعاقب المعتدي، وتضمن عدم تكرار الاعتداء، ولو خلي الإنسان بينه وبين الانتقام من المعتدي لوضع على كل جريمةٍ وإن كانت صغيرةً وعلى كل اعتداءٍ وإن كان بسيطاً أقصى العقوبة، لأنها هي الوحيدة التي ستشفي غليله، وهي الوحيدة التي ستشبع رغبة القوة الغضبية فيه، وهنا يرد هذا التساؤل المهم: لماذا يطلب الإنسان أقصى العقوبة على اعتداء بسيط لربما لا يتعدى سباً أو شتماً مثلاً؟!. ولكن .. العقل يأبى أن يوضع عقاب السرقة كعقاب الاعتداء والقتل، وأن يتساوى عقاب السب مع عقاب الضرب والإدماء، فقام الإنسان يطالب بضرورة وضع العقاب بما يناسبه وحجم الجريمة والاعتداء بجهتين:(بجهة الكم بجهة الكيف). وسيأتي بيان هذا المعنى في البحث بعد قليل إنشا الله، وهنا لا بأس أن نسجل تساؤلاً آخراً وهو: لماذا العقل يأبى وضع عقوبة كتلك؟!، فما الفرق في النتيجة؟!.

ومن هنا تطرح بعض التساؤلات المهمة: هل يستطيع الإنسان أن يضع لنفسه قانوناً يضمن وصول المتطلبات إلى كل فرد من إفراد المجتمع من دون أي زيادة أو نقيصة؟!، ومن دون إفراط أو تفريط؟! وهل يستطيع أن يضمن في وضعه للقانون التوازن بين (حقوق الأفراد) و(حقوق الإجتماع)؟! وهل يستطيع أن يضمن في وضعه للقانون التوازن بين (حقوق الفرد) من جهة، و(حقوق المجتمع) من جهة ثانية، و(حقوق المحيط الطبيعي) من جهة ثالثة؟! وهل يستطيع وضع العقوبات لكل جريمة اجتماعية بشكل عادل وسليم؟! وهل يستطيع أن يحفظ (حق المجرم) في العقوبة من حيث ملاءمتها وانسجامها وحجم جريمته؟! ثم هل يمكن للقانون أن يُوَظَّف ويطبق في الحيز الاجتماعي من دون أن يلاقي صعوبةً أو مواجهةً أو نقداً يزلزل أركانه، ويهدم بنيانه؟!.

«15»

بنود العدالة الإجتماعية: فبالملاحظة الأولية تتشكل أمامنا أهم بنود (العدالة الإجتماعية) القاضية بحفظ (حقوق الأفراد والمجتمعات) بل وحتى الكائنات الحية وغيرها التي تعيش ضمن المحيط الإنساني، وهي: ضمان حقوق الأفراد، وضمان حقوق المجتمع، وضمان حقوق الكائنات الأُخرى غير الإنسان، وضمان التوازن في تحقيق المتطلبات الفردية والإجتماعية والمحيط أيضاً، وحل إشكالية التزاحم في عالم (حقوق الأفراد) فيما بينهم من جهةٍ، وفي عالم (حقوق الأفراد والمجتمع) من جهةٍ اُخرى، ووضع حل لإشكالية التزاحم بين عالم الإنسان وعالم سائر الكائنات المحيطة به، وضمان ردع الآخرين عن الإعتداء، وضمان معاقبة المعتدي، وضمان تناسب العقوبة وحجم الجريمة والمخالفة كماً، وكيفاً، وهذا كله من جهة التشريع والقانون، وضمان تناسب العقوبة والجريمة والمخالفة من جهة التطبيق أيضاً، وذلك بأن يكون القانون ساري المفعول بحيث يوظف ويفعل في حال الإجتماع، ويكون المنفذ والمطبق للقانون على مستوى عال من النزاهة بحيث لا ينحاز إلى أحد، والقوة بحيث لا تأخذه في التطبيق لومة لائم، والإنصاف والعدالة، بحيث لا يميل إلى رحمة أو إلى مصلحة قد تفوته، أو إلى موقف قد يتعاطف معه، والإحاطة الكاملة للمشكلة الواقعة، فيتمكن من الوصول إلى الحل الناجع، وضمان فهم القانون بالشكل الصحيح، بحيث لا يتخالف مع أصل العدالة، ويضع الحقوق في محلها.

وهذه البنود الأحد عشر من أهم ما يبحث عنه الإنسان لتحقيق العدالة التي يحلم بها، فإذا لم يتوفر للإنسان قانونٌ حقوقي عادل من جهةٍ وإلى موظفٍ له من جهةٍ اُخرى؛ بحيث تتوفر فيه هكذا صفات ومؤهلات فإن الحياة المدنية التي أراق لتأسيسها السابقون دماءهم وبذلوا الغالي والثمين حياتهم، ستكون معرضة للخطر، بل أن نفس البنية التحتية لهذا الصرح المادي الشامخ لمهدد بالدمار والإنهيار، وهذا يعني عودة الإنسان إلى حياة العصور الحجرية.
وإذا افترضنا أن الإنسان استطاع أن يبذل الجهد في عالم المادة للاستفادة منها إلا أنه وقع في تيه في عالم المعنويات وعلى المستويين الفردي والاجتماعي معاً، ولم تبرح البشرية عن التفكير في صناعة قانون متكامل يضمن الحياة السعيدة؛ مذ أن تم التحامٌ بين الأفراد فيما بينهما، وتشكل المجتمع، وكانت الحاجة تزداد إلى إيجاد نظام اجتماعي أكثر شمولية ودقة كلما ازداد عدد أفراد المجتمع وازدادت متطلباتهم الضرورية والكمالية؛ واشتد التزاحم فيها، فقامت دولٌ وشعوبٌ، وأُسست الحياة المدنية، وكان يقترن بتأسيسها المدني “تشكيل نظام” مهمته تحقيق (العدالة الاجتماعية)، وتوزيع (حقوق الإنسان) بنحو عادل.

بيد أن تلكم العلاقة الطردية بين زيادة الأفراد وبين التزاحم المحكومان لزوماً بزمانٍ ومكانٍ ولوازمهما من التطور والتنمية كانت تلقي بظلالها على القانون الذي وضعوه أو وضعه أجدادهم؛ فكانت الشعوب تنظر إلى قانونها وكأنه في مرحلة الشيخوخة، فيحتاج إلى تجديدٍ أو إلى توسعةٍ أو إلى تعديلٍ أو تغيير وتبديل وذلك لعدم قدرة هذا القانون المتقادم زماناً على سد كل الفراغات المتكونة بتأثير من العلاقة الطردية ولوازمها في (الهيكل الاجتماعي) وأساسه، وكان يرافق تبديل القانون أو تغييره أو تعديله ـ في بعض الأحيان ـ معارضاتٌ داخليةٌ ما كان يشكل خطورةً على الحياة المدنية والاجتماعية معاً، ولا يخلو الأمر من معاناة تعاني منها الطبقة ما دون العليا ـ كالوسطى والدنيا وما تحت خط الفقر ـ في هذا المجتمع، لعدم توفر بدائل العيش الكريم لديهم مثلما هو عند تلكم الطبقة، وفي كثير من الأحيان كانت الأمور تؤول في تلكم الدول إلى نشوب حروبٍ داخليةٍ تدع الجمع حصيداً، والفيء زهيداً.

وإذا كانت غالبية الحروب منشؤها عدم قدرة القانون على توفير ضمانات الاستحقاق الناشئة من حقوق أفراد المجتمع، فإن بعضها كان منشؤها عدم الاتفاق على بعض بنود القانون أو على الصيغة التي صيغ بها، وإذا ما تخلص من هذا الدهليز كان ينتظره دهليز أشد وهو: المنفذ له والمطبق إياها ليقوم بتمريره وتنفيذه ..!.

«16»

ما زالت المحاولات مستمرة لإيجاد (نظام عالمي متكامل) يستطيع ضمان حقوق الأفراد والشعوب جميعاً، بل ويضمن في عرضه حقوق الكائنات، وخاصة بعد أن أصبح العالم اليوم قريةً يتأثر الشرق من متغيرات الغرب ويضطرب الشمال من تبدلات الجنوب، والعولمة ما هي إلا وجها من وجوه تلكم المحاولات لإيجاد العدالة الاجتماعية على مستوى البشرية، والتي تأخذ اليوم طابعاً اقتصادياً ومن يعلم فقد تتوسع في آفاقها مستقبلاً لتشمل كل النواحي الإنسانية والمجالات العلمية بل ولا أكون مبالغاً في قولي أن قلت أن العالم يتجه نحو العولمة حتى في الجهة العقائدية والإيديولوجية ليصبح العالم كله عقيدة واحدة، وما نشاهده من بعض الدول المهيمنة مما تقوم به خير دليل على ما نقوله، ولكن أهل سيكون هذا مصيرها أن هناك من سيحل محلها، فالحاكم فيها دواعي الفطرة ومتطلباتها الجوهرية وإرادتها الحية القاهرة.

ولكن .. الصخرة التي تقف دون بلوغ الإنسان إلى هدف مشترك بين جمع البشر وهو الوصول إلى قانون (متوازن) هي: أن يرى الكل اُطروحته هي الأكمل، فلابد من أن تأخذ هي دون غيرها مجراها وطريقها في الحياة الإنسانية، وإن أية اُطروحةٍ غيرها إذا اُحتمل في حقها أنها قد تشكل خطورةً على استمرارها فإنه ينبغي أن تزاح من الطريق للاعتقاد بعدم صلاحية هذه في الساحة الاجتماعية، وهذه من أهم المعوقات لبناء المجتمع الصالح، بحيث تمنع من استمرار البشرية في طريق السلم والسلام لاختيار المصير الفطري، والبلوغ إلى الحياة الطيبة. وهذا الأمر ـ مع قليل من التأمل فيه ـ راجع في حقيقته إلى الشعور بكمال الأطروحة الشخصية ونقص الأطروحات الأخرى، أضف إلى ذلك وجود حالة ضمنية في نفسية طارح الاُطروحة بحيث تُشعره بعدم وجود من يطرح الاُطروحات العادلة المتوازنة أفضل وأحسن منه، ويبادله في شعوره هذا كل أطراف الخلاف والنزاع!.

وعندما يشعر الكل شعوراً بهذه الكيفية تجاه نفسه واُطروحاته وتجاه الآخرين وأُطروحاتهم؛ فإن سبيل فرض الرأي بالقوة مفتوح لدى بعضها لما تتمتع بمظهر من مظاهر المهيمنة والقوة بإحدى أشكال الهيمنة في المجتمع وإن كان الرأي قد تشكل أو طرح على شكل اسلوب المحاورة والمناقشة الهادفين، وبنحو موضوعي منصف ومتحضر ديمقراطي لا يقبل بسوى الحوار والديمقراطية بدلاً!، وهكذا نجد كيفية تأثير المحاولات البشرية لتشكيل نظام اجتماعي عادل في المجتمع الإنساني، وهذا يعني أن (العدالة الاجتماعية) بكل دلائلها ولوازمها إذا كانت بالأمس حلم دولٍ ومجتمعاتٍ صغيرةٍ محدودةٍ بحدود جغرافيةٍ ضيقةٍ؛ فإنها أصبحت اليوم حلم العالم كله، حيث لا حدودٌ جغرافيةٌ تضيق توسعتها، وإنّ نشوء وتَشَكُّل مجالسٍ دوليةٍ أو إقليميةٍ أو قاريةٍ أو قوميةٍ ما هي إلا محاولاتٌ للوصول إلى (عدالة اجتماعية) بما تناسب واتجاه المجلس الدولي أو الإقليمي أو القاري أو القومي!، قال العلامة السيد محمد باقر الصدر في كتابه (اقتصادنا 308 ـ 309): أفليست المشكلة هي أن الدوافع الذاتية لا تستطيع أن تضمن مصالح المجتمع وسعادته، لأنها تنبع من المصالح الخاصة التي تختلف في أكثر الأحايين مع المصالح الاجتماعية العامة؟

إن هذا ليست مشكلة وإنما هي حقيقة المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ. ونقول وبضرسٍ قاطعٍ .. إن الوضع الحالي للإنسان لا يشجع على إيجاد تشكيلة القانون العالمي الواحد، والنظام البشري الموحد، والعدالة الاجتماعية العالمية الواحدة، والنظام الحقوقي للإنسان والكائنات الواحد، وتحت رعاية القانون الوضعي الواحد، وإن كانت هناك رغبات جادة لدى بعض المنظمات التي تتبناها بعض الدول في تحويل العالم إلى فروع لأفكارها، ومعتقدها، وطريقة العيش التي تروج لها، واعتماد سياستها. ونلفت نظر القارئ العزيز إلى ملاحظةٍ حقيقةٍ واقعيةٍ لا مناص لأي (قانون وضعي) من أخذها في عين الإعتبار وهي: أن تشكيل (قانون وضعي) واحد موحد دولياً وعالمياً، فيضم جميع الدول تحت مظلته، لأمر لا يؤدي بطبيعته إلا إلى خلق فوضى بين هذه الدول، وسيكون مشروعاً لخلق طبقيةٍ مفرطةٍ من جهةٍ، وللإخلال بنظام العدالة من جهةٍ اُخرى، ولسلب الحقوق الإنسانية من جهةٍ ثالثةٍ. ولذا نجد أن تشكيل قانون واحد موحد دولياً وعالمياً لا نقول بعدم إمكانه بل نقول باستحالته، نعم يمكن للإنسان أن ينجح في تحقيق صلح فيما بينه وبين أخيه الإنسان، وأن يوقع هدنة؛ ولكن هذا الفعل مرهونٌ بعدم تجدد أطماع لدى أي طرف من أطراف النزاع والاختلاف.

«17»

استحالة عدم وجود حل للمشكلة الإنسانية:
ولا ندعي الاستحالة في أصل وجود حل لمثل هذه الأزمة، ولكننا نعتقد أن الحل لابد وأن يكون من نفس المنشأ الذي نشأت منه المشكلة الإنسانية، ومع فهم هذا الأمر ومن ثم فهم متطلباته بشكل دقيق، وهذا ما ما سيقود الإنسان إلى إيجاد نظام متكامل في منظومته الاجتماعية والفردية معاً.

فلابد من ملاحظة (الدافع الذاتي) في الإنسان ـ كما تقدم ذكره ـ وينبغي الالتفات إلى ما فطرت عليه هذه الذات الإنسانية، والأخذ في عين الاعتبار احتياجاتها الذاتية؛ فحينها فقط يمكن وضع اليد على الداء، وحينها فقط يمكن معرفة الدواء، ومع انعدام تلكم الملاحظة وغياب الالتفات، وتغييب الاعتبار سيظل الحال كما هو، وستظل البشرية تعاني جروحاً لا تندمل، وآلاماً لا تزول.
وهذا الدافع الذاتي لم ينشأ باعتبار معتبر، كلا؛ بل هو ناشئ من صميم تركيبة الإنسان، وهذا الذي حدد الاحتياج الذاتي، وهو الاحتياج الخاص لغذاء خاص، وهذا الاحتياج الذاتي هو الذي حدد أطر الحقوق والحق في الإنسان والكائنات. المؤاخذات على المحاولات البشرية: ويمكن تلخيص بعض المؤاخذات على المحاولات التي يبذلها الإنسان للوصول إلى سعادته وحضارته بإحقاق الحق، ونشر العدالة في النقاط التالية. أولاً: المؤاخذات على تطويع المادة: قد يبدو ولأول وهلة أن لا مؤاخذة على البعد المادي الذي إستطاع الإنسان أن يطوع هذه المادة كيفما أراد، فإن الإنجازات التي قام بها في عالم المادة لكفيلة لإقناعه بذلك، فلا يبقى حينئذ ما قد يؤاخذ به، بل سيستحق لإنجازاته التصفيق له، ولعل دفع المؤاخذات عن الإنسان أو رفعها في هذا الجانب كان لأجل ما وصل إليه من القدرة العظيمة على تطويع للمادة، فمع ملاحظة ما كان عليه الإنسان سابقاً وما هو عليه حالياً ليوجب له التعظيم والسلام الحار، إلا أن السؤال المهم الذي سيرد في البين هو .. فهل الأمر هكذا بهذه البساطة؟!، أم أن الأمر ليس كذلك؟!.

فلكي يتبين جواب المسألة من المهم أن نبين حقيقة مهمة أولاً، وهي في الجواب الآتي: إن النظر إلى ما قام به الإنسان من إنجازاتٍ على المستوى المادي يمكن أن يلحظ عليه بلحاظين مهمين:

اللحاظ الاول: إننا لما أن ننظر إلى السكن، واللباس، والعقاقير، والادوية، والنقل، والاتصال، وكل ما يرد في عالم التعامل مع الطبيعة لسد الإحتياجات الطبيعية والمادية للإنسان على نحو العموم فإننا سنسجل عليها أمران:
التسجيل الاول: إن الإنسان لما أن طور حاله من حالة مادية بسيطة إلى حالة مادية ذات تعقيد فإنه يلحظ عليه الآتي: المرحلة (1): جعل عالم الطبيعة مورداً للتجارب: إن الوصول إلى النجاح يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد، وفي سبيل الوصول إلى ما يبحث عنه الإنسان عليه أن يدخل إلى عالم الطبيعة ويتخذها مختبراً للتجربة، ومن ثم؛ وبعد التجارب الطويلة يصل هذا الإنسان إلى ما يبحث عنه. ولكن .. بعض الأسئلة المهمة ستطرح في البين، ونظنها جديرة بالتفكير والتأمل والأسئلة هي: هل كان بالإمكان أن يصل الإنسان إلى ما يريده من عالم الطبيعة من دون تعريض الطبيعة إلى تجارب من أصل؟!، أي .. أكان بمقدور الإنسان أن يصل إلى مراده مباشرة ومن دون الدخول إلى عالم التجربة والاختبار أم لا؟!، ومن الطبيعي أن تكلف التجارب العلمية مبالغ طائلة، فمن الذي يحددها ويحدد سقفها؟! ومن الذي يرجح التجربة العلمية التي يعود نفعها على البشرية من التي لا يعود؟! وهل كان هناك من الناس من يموت جوعاً يستحق العيش كغيره من الناس وهو محتاج إلى لقمة عيش كي يحافظ على رمقه في الحياة؛ ورمق أطفاله، فهل أُخذ هذا الأمر في الحسبان وقت اختيار صرف الأموال في التجارب العلمية؟! وإذا ما أخذ هذا في الحسبان فمن كان المرجح للصرف في التجارب العلمية على حياة الجائع؟! وما هو المعيار والضابطة في اختيار الترجيح؟! ومن الذي أيده في الاختيار؟! وهل كان للفقير خيار في هذا الترجيح أم لا؟! فلو قيست المسألة على المبدأ الحقوقي، وعلى نظام العدالة الإنسانية فلمن تعطى الأولوية في صرف الأموال فيه، فهل تعطى الأولوية لإنقاذ الناس الجياع؛ أم لإجراء التجارب العلمية؟!.

«18»

تحدثنا في الحلقة السابقة عن الحالة (1) والتي كانت جعل عالم الطبيعة مورداً للتجارب، والآن سوف نتحدث عن الحالة (2): جعل الإنسان مادة التجربة إن شاء الله تعالى.

إن عملية التطور المادي رافقتها التجارب العلمية على الطبيعة، وأيضاً على الكائنات الحية، ومن تلكم الكائنات هو (الإنسان) نفسه، ولكن .. لما أن كانت هذه التجارب البشرية على الإنسان تنجح في أحايين عدة إلا أنها كانت تشهد إخفاقاتٍ كبيرةٍ جداً في أحايين أُخرى، والسؤال في هذه الحالة هو: هل كان بالإمكان أن يصل الإنسان إلى علاج من دون المرور على الإنسان، ومن دون تعريضه لتجربة علمية؟! وهل الإنسان يملك خيار وضع حياته في خطر، مع وجود احتمال كبير في فشل التجربة؟! ومن الذي يعطي للإنسان هذا الخيار؟! وهل خيارات الإنسان في وضع نفسه في موضع الخطر الأكيد مطلقة أم مقيدة؟! وإذا كانت مقيدة فمن الذي يرجح هذه على تلك؟!.

التسجيل الثاني: إننا بالنظر إلى ما وصل إليه حال المادة من التطويع والتطوير فانه نعم لأمرٌ جديرٌ بالتقدير والشكر؛ إلا أننا لو نظرنا إليه من جانبٍ آخرٍ وهو:(التأثير السلبي) الذي يخلفه هذا التطوير والتطويع في عالم الطبيعة، وكذا في الإنسان وحياته، وهو الذي يعرف بـ (التأثيرات الجانبية)، فلعل النظرة حينها ستختلف، والوصف سيتغير، وهذا ما يمكن مشاهدته عبر الاعتراضات التي يعترض عليها (حماة الحقوق) و(حماة الطبيعة).

فإن بناء البيت لما أن كان بسيطاً في السابق، وكان يتكون من مواد الطبيعة نفسها، إلا أن الوضع تغير فأصبحت تدخل في بناء البيت مواد لا تهضمها الطبيعة، ولا تستطيع أن تحللها إلى المواد العضوية، الأمر الذي أصبح يشكل خطورة على عالم الطبيعة نفسه، ناهيك عن المخلفات الكيميائية، والتلوث البيئي الذي ينشأ بسبب رمي النفايات .. إلخ، فهذه قد أثرت على عالم الطبيعة وعلى عالم الإنسان ما أدى بها إلى أن تعاني بما لا يمكن رفعه عنها من الأمراض الفتاكة اليوم.

وهنا يطرح هذا التساؤل المهم .. هل كان بمقدور الإنسان الحصول على ما يسد حاجته المادية الطبيعية من دون تعريض عالم الطبيعة أو الإنسان لـ(تأثير سلبي جانبي) لذلك الاستخدام أم لا؟!.

أظن الجواب الأكيد الذي يعرفه الجميع هو: كلا، فإن الأدوية، واللقاحات، والمبيدات .. إلخ؛ لا بد أن تؤثر تأثيراً جانبياً، والسبب هو: عدم معرفة أصحاب التجارب، والإخصائيين، وأصحاب المعامل تكوين كل شئ في العالم، فهم وفق بعض العينات الميدانية؛ والتي تخضع لبعض التجارب التي تتحدد بأُفق عالم المختبر يصنعون ما يمكنهم من صناعته بهدف الحصول على نتائج إيجابيةٍ متوقعةٍ، فهنا ترد بعض الأسئلة وهي: فهل مثل هذا الفعل وبهذه المعطيات مغتفر في منظور (المنظومة الحقوقي)، وفي (معادلة) العدالة؟! فمن المسؤول عن تجارب لـ(لقاح شلل الأطفال) التي أودت بحياة حوالي مليوني طفل إفريقي؟! ومن المسؤول عن الاختلال الطبيعي الذي يحدث في عالم الطبيعة من ارتفاع منسوب مياه البحر، والعواصف، والبراكين، والزلازل؟! ومن المسؤول عن الامطار الحمضية؟! ومن المسؤول عن ارتفاع حرارة الارض؟! ومن المسؤول عن تأثر طبقة الاُوزن؟! ومن المسؤول عن تلوث المياه ؟! ومن المسؤول عن انخفاض منسوب المياه العذبة؟! ومن المسؤول عن ذوبان الجليد؟! ومن السؤول عن تلوث الهواء؟! ومن المسؤول عن تلوث التربة؟!.

أظن القائمة ستطول، ولن تكون سهلةً أبداً، بل سنملأ الكتاب بها قبل إكمال بحثنا ليس من السطور والكلمات فقط؛ بل ومن الآلام والجراحات التي لم تزل ولا تزال البشرية تعانيها، ويكفيك عزيزي القارئ ما تشاهده اليوم من مآسٍ على وجه الأرض، وشهادة العصر اليوم أكثر حضوراً من ذي قبل بلحاظ التطور الملحوظ في التقنية والتكنولوجيا في عالم التواصل والاتصال الذي لم تشهد مثله البشرية من قبل هذا، حتى نجد وصول الحال ببعض الدول إذا ما تريد تجربة أسلحة معينة فإنها تسلمها لمليشيات أو منظمات أو جماعات معينة ليكون حربها مختبراً ميدانياً لتجربة تلكم الأسلحة.

«19»

ونود هنا أن نوضح أمرا مهما وهو: إننا لما أن نقول أن الإنسان هو المسؤول عن كل تلكم الأمور السلبية التي تحدث على الأرض فإنه لا يعني أننا نتهمه بالتعمد، أو أنه قاصد أن يخل في التوازن الطبيعي في الأرض، وإنما نقصد أن ذمته غير مفروغة من هذا الاختلال، لأنه في النتيجة هو وراء ذلك، وإن كان بشكل غير مباشر، فإن قاعدة (التسبيب) تتناوله إضافة إلى جهل الإنسان بالاحتياج الذاتي للكائنات.

فعلى مستوى الصناعات كلها نجد أن الإنسان والطبيعة بل ولن تعدو الحقيقة اليوم بأن الكون أيضا يشاركهما في التأثر منها، فهذه الصناعات وإن كانت تقدم امورا يستريح فيها الإنسان، إلا أنه من الوجه الآخر تؤثر عليه بدرجة قد أصبحت تهدد ما يستريح فيه، والأدوية التي أصبح يتناولها لشفائه؛ فإن المواد الكيماوية التي فيها لا تمنع من أن تصيبه في جانب أخر بأضرار اخرى، فحتى على هذا المستوى المادي يتبين حال هذا الإنسان بوضوح، وينكشف لنا أنه غير قادر على تقديم الحياة المادية والطبيعية السليمة الصحية لبني جنسه من دون مضار.

اللحاظ الثاني: فبما أن سعادة الإنسان تكمن في تحقيق (العدالة) في حياته، فيمكن تسجيل الملاحظات عليه بموردين
التسجيل الأول: قد تبين أن الإنسان محتاج إلى (العدالة الاجتماعية) في كل ناحية من نواحي الحياة، كي يطمئن أن حقوقه قد وصلت إليه وينحو عادل، إلا أننا مع النظر إلى عالم الطبيعة وما يستنفذه الإنسان منها من موارد وما استطاع أن يطوع منها من مواد ومع النظر إلى الأثر الجانبي السلبي الذي تخلفه الصناعات فإننا حينئذ لا ولن ننظر إلى العدالة الاجتماعية من منظورها فقط، بل إننا سننظر إلى عنوان (العدالة) حينها إلى ما هو أشمل من المجتمع الإنساني، وهي: (العدالة الطبيعية)، و(العدالة المادية)، فإن التعامل مع الطبيعة يحتاج إلى العدالة أيضا، فإن كل ما في الحياة محتاج إلى كمية معينة من الهواء والماء، والتراب، والضوء، وإن الإخلال فيها يعني إخلال في (العدالة) وإخلال في (حقوقها).

فهل راعت البشرية في تطويرها وتطويعها للمادة والطبيعة احتياجات الطبيعة نفسها أم لا؟!.

إن شاهد الحال يكشف أنها لم تراع، ولذا نجد التأثير السلبي على الطبيعة جراء فعل هذا الإنسان الساذج، والخالي عن التفكير في الطبيعة واحتياجاتها ومتطلباتها، وهو فعل غير الملتقت إلى نتائج عمله، ومرجع عدم التفاته هو (جهله) بذلك، بل وبعد أن علم أن صناعاته تؤثر على الحياة الطبيعية فإنه لا يزال مستمرا في فعله، وكيف يتوقف، وقد فقد توزان الفضيلة في مملكة نفسه، وغرته المكاسب المادية، ففقدت العدالة في مملكة نفسه، وفقد مبدأ إعطاء كل ذي حق حقه بين قواه النفسانية، فاني أن يترجم الفضيلة في الحياة العملية اجتماعيا، وطبيعيا. فهذا من المحال؟

التسجيل الثاني: فإن إنسان العهود الغابرة الذي كان هو التجربة الأولى لإثبات صلاحية استعمال الأدوية والعقاقير .. ألم يكن ضحية الأدوية غير صالحة للاستعمال والتاريخ يشهد أن إخضاع الإنسان لتجارب الادوية والعقاقير في كثير من الأزمنة والأمكنة لم يكن بإرادة من الإنسان المختبر، بل كان يعطاها من دون علمه، وهذا بنفسه يعد إخلالا في أهم بنود وأركان (العدالة الاجتماعية)، ويعد إخلالا ل(حقوقه) كإنسان دي حرية وسيادة، فلو علم إنسان العهود الغابرة بما سيحدث له لرفضها . وهذا حقه الطبيعي الأكيد، ولكن .. لما أن حدث ما حدث فهل مُنح حق المطالبة بحقوقه المهدورة، أم لا؟! الجواب: كلا .. ولكن ماذا لو أنه فقد حياته جراء تلكم التجارب. وقد حدث فعلا في كثير من الأحيان ، فهل اختل بذلك توازن أركان العدالة الاجتماعية، أم لا؟!، فهل أختل بذلك توازن أركان (الحقوق) أم لا؟!. إن الجواب القطعي هو: بلى .. فمع هذين اللحاظين وبالخصوص الثاني .. يتبين أن الإنسان لوحده غير قادر على تحقيق العدالة وتوزيع الحقوق على هذا المستوى المادي فضلا عن مستوى (العدالة الاجتماعية).

«20»

ثانياً ـ المؤاخذات على صناعة القانون: ولا تقتصر المؤاخذات على الإنسان في بعده المادي فقط، بل وتُجر إلى المؤاخذات في بعده المعنوي الذي نمثله هنا في أهم عنصر من عناصر تكوينه الفردي والاجتماعي وهو:(القانون) الشامل لمبدأ العدالة ولمبدأ الحقوق معاً، ويمكننا أن نلخص أهم المؤاخذات في هذا الجانب في التالي:

1 ـ لأن الكل يريد استكمال ذاته ـ سواء أكان هذا الذات فرداً أو بحكم الفرد كالمجموع الذي يأخذ حكم الفرد في شخصيته وأبعادها ـ فعندما تضع جهة ما قانوناً او تشريعاً تريده أن يكون هو الحاكم على الأمم والشعوب فإنها تعتقد أن هذا القانون والتشريع هو الأفضل والأحسن لها، لافتراضها صلاحيته في سوق البشرية السائرة إلى كمالها اللائق بها، وإسعادها به من كل الوجوه والجهات.

فإننا نجد في المقابل من يرى أن أُطروحته هي الأنسب والأصلح للطرح، ولكن .. من الذي يعطي لهذه الاُطروحة الشرعيةَ والمصداقيةَ، لتكون هي الحاكمة دون غيرها؟!.

فإن مثل هذه الرؤية للقانون، ومثل هذا التعامل مع التشريع، ومثل هذا التبني لمثل هذه الاُطروحات يوجب خلق حالة من تزعزع في الثقة في اُصول تلكم القوانين والتشريعات والُطروحات الوضعية، فجميع الأطراف تعتقد بصلاحية اُطروحاتها، وتؤمن بضرورة احترام سيادتها، وأن فرض أي اُطروحة على الاُخرى يعني اختراق سيادتها، وعدم احترامها، وهذا أمر في حد نفسه يخل بـ(نظام عدالة الاجتماع الدولي)، وبـ(منظومة الحقوق الإنسانية).

ومرجع هذا الاعتقاد إلى أن البشرية مزودة بنظام تكويني فطري في منظومتها العقلية، وهذا (النظام الفطري) يمنعها من الحكم على المتناقضين بصوابيتهما معاً، فلا يعقل لديها أن تكون الاُطروحتين المتناقضتين تناقضاً تاما مُحْكَماً ومع ذلك يحكم على كليهما معاً بالصواب، فإن هذا من المحالات الذاتية.

2 ـ عدم وجود اطمئنان من عدم انحياز القرار والقانون والتشريع، ومن عدم انحياز صُنَّاعِه أو منفَّذيه وموظِّفيه.

فإن دواعي الاستكمال للذات متوفرة وموجودة، وأن المجموع الذي يأخذ حكم الشخص الواحد لا يخلو من أحكام الفردية تلك لذا فإن ما تطلبه الفطرة من استكمالٍ لنقص ذاتها، وسدٍ لفقر نفسها يوجب لها حيازة ما تراها صالحاً لها أولاً وبالذات، وبالمقابل فهي تتنفر أو تدفع عنها كل ما يوجب منعها من تحقيق تكاملها، ومثل هذا الأمر بديهي، وغير ممنوع من أصل. ولكن ـ وكما بينا بأن الوقوع في الشبهة المصداقية أمر واردٌ جداً ـ فقد يميل صناع القرار إلى من يتوافق مع من ينسجم مع رغبتها وأهدافها، وبما أن الإنسان في اجتماعه مع الأخرين ينجذب إلى أفرادٍ متوافقين معه في الجملة، وإبعاد كل من يحتمل فيه أنه قد يشكل مانعاً لتحقيق أهدافه وغايته الفطرية، ففي هذه الحالة نجد أن احتمالية الانحياز إلى الأطراف المتوافقة ستكون واردة جداً، فهنا .. كيف يمكن إقناع المقابل الذي يخالف صانع القرار وموافقيه بأن ما يقرره هذا ليس (لوبياً)، ولا أمراً مخالفاً لمتطلبات الفطرة، أو الحقيقة، أو الواقع؟!!.وكيف يمكن إيصاله إلى مستوى الاطمئنان بالطرف المخالف له؟!.

وخاصة إذا ما استلم الطرف المخالف له إدارة القانون، أو وضع بنود تشريعاته، فقد .. بل يقيناً سيُتهم “القانون” بذاته بأنه قد صيغ بصياغة منحازة إلى فئةٍ، أو إلى مجموعةٍ، أو إلى طبقةٍ!.

فإذا ما وجدت بنودٌ في تشريعٍ ما، أو قانونٍ ما، أو اُطروحةٍ ما فإنه سيحاط بإشكالية الانحياز في الجملة وهذا بحد ذاته يمنع من الاطمئنان إليه، ولازمه عدم الاعتماد عليه، وعدم أخذه.

ووجود مثل هذه التهمة في البين كافيةٌ في خروج القانون عن الاُصول الموضوعية والإنصاف والعدالة، ويضعه في قفص التهمة؛ وتضعه في موضع الشك في النزاهة المطلقة، وإذا ما وردت مثل هذه الإشكالية في حجمٍ صغيرٍ من الاجتماع الإنساني، فإن ورودها في دائرةٍ أكبر وأوسع لأشد وآكد.