لمّا بدأت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير 2022 المستمرة حتى اليوم، شرعت الولايات المتحدة وحلفاؤها من الغرب يفرضون حزمًا متتابعة من العقوبات القاسية على روسيا، تبعتها عقوبات من الشركات الغربية، موازاةً لحرب إعلامية شرسة، ويؤجّجون الرأي العام العالمي على روسيا حتى على حساب مبادئ غربيةٍ متعارفة سابقًا؛ مثل فصل الرياضة عن السياسة، وحرية التعبير. وتُعدُّ هذه العقوبات استمرارًا لعقوبات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها على روسيا التي بدأت في مارس 2014م بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم.
وقد انضمت كوريا الجنوبية وتايوان، وبعض الدول التي كانت تدعي الحياد حتى وقت قريب مثل سويسرا، إلى فرض العقوبات، وتمثلت أولى هذه العقوبات في تجميد ما يعادل 400 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي في تلك الدول، وحظر التعامل معه. وحُظِر كذلك أكبر بنكين روسيين من التعامل بالدولار الأمريكي، وأُزيلت سبعة بنوك أخرى من النظام الدولي للمدفوعات في جمعية الاتصالات المالية العالمية بين المصارف “السويفت”. وجُمِّدت أصول بعض البنوك التجارية وبعض رجال الأعمال والسياسيين الروس في الولايات المتحدة وأوربا. وأعلنت ألمانيا وقف مشروع “نورد ستريم 2” لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق.
ولم يقتصر فرض هذه العقوبات على الحكومات الغربية؛ بل طالت الشركات الغربية التي قامت هي الأخرى بفرض عقوبات متعددة -تحت الضغوط الحكومية والشعبية أحيانًا أخرى- على كل ما يتصل بروسيا مثل وقف فيزا وماستركارد وأمريكان إكسبريس المعاملات والعمليات التي تقدمها في روسيا، وقطع شركة أبل نظام الدفع ووقف مبيعاتها في روسيا، وقد علّقت شركة ميرسك الدنماركية عمليات الشحن من روسيا وإليها. وكذلك أعلن عمالقة الطاقة مثل شركة “بي بي” البريطانية إنهاء شراكتها مع شركة روزنفيت الروسية، وبيع حصتها في الشركة، وأعلنت شركة “شل” عزمها الانسحاب من مشروعاتها المشتركة مع “غازبروم” الروسية. إضافة إلى أنَّ عددا من عمالقة العلامات التجارية الغربية أعلنوا إما إنسحابهم أو تعليق عملياتهم في روسيا.
ومن المفارقات الجديدة في هذه العقوبات توظيف مؤسسات دولية مثل الفيفا الذي أعلن منع إقامة أي مباريات متصلة بالفيفا في روسيا، أو رفع أعلامها، أو عزف نشيدها الوطني، إضافةً إلى استخدام “اتحاد كرة القدم الروسي” وليس روسيا، وغُيِّرت لاحقًا بعضُ اللوائح والنظم المتصلة بالعقود حتى مكَّنت اللاعبين والمدربين الأجانب من فسخ عقودهم من طرف واحد مع الأندية الروسية. وفي تحدٍ لشعارات “حرية التعبير” التي تغنى بها الغرب، حظرت بعض الدول الغربية بث قناة “روسيا اليوم” مثل: بريطانيا التي أعلنت إلغاء رخصة بث قناة “روسيا اليوم”، وكندا التي رفعت اسم قناة “روسيا اليوم” من قائمة المحطات المرخصة للتوزيع في كندا، وقيّدت شبكات التواصل الاجتماعي فيسبوك وتيك توك وتويتر حساباتٍ روسية.
لا شك أنَّ روسيا تتضرر من هذه العقوبات، فقد أدت العقوبات الغربية إلى خسارة الروبل الروسي أكثر من 40% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي، فاضطرت روسيا إلى رفع نسبة الفائدة. وخسارة الروبل لقيمته وزيادة نسبة الفائدة ستضران بالشركات والمستهلك في روسيا في آنٍ واحدٍ، وستؤدي إلى موجة تضخم. كما أن تأثر سلاسل التوريد، سيؤثر على القطاع الصناعي الروسي خلال الأمد القصير، حتى تجد الشركات الروسية بدائل أخرى يمكن الاعتماد عليها.
وعلى الرغم من كل ذلك، فما زال الاقتصاد الروسي قويًّا ومتماسكًا، وأن روسيا من الدول المتقدمة التي تملك احتياطيات من العملة الصعبة تعادل قرابة 650 مليار دولار، إلى جانب عائدات ومخزونات هائلة من الثروة الطبيعة؛ كالنفظ والغاز والذهب والفضة. وانخفاض قيمة الروبل يزيد من تنافسية المنتجات الروسية لا سيما إلى دول آسيا الوسطى، التي ترتبط اقتصاداتها باقتصاد روسيا. وكذلك تستفيد روسيا من السعر الحالي للنفط والغاز، فسعر النفط أكثر من ضعف سعر الموازنة المستندة إلى سعر 45 دولارًا للبرميل، وهي من أكبر مُصدري النفط في العالم. وستزيد هذه العقوبات من تنافسية الكثير من الشركات الروسية التي سيزيد التعامل والاعتماد عليها، فمثلًا سيزيد التعامل مع شركات المدفوعات الروسية بدلًا من الشركات الغربية، وستنتعش المطاعم والعلامات التجارية الروسية على حساب العلامات التجارية المنسحبة.
أضف إلى ذلك أن اقتصاد روسيا أقدَرُ على تحمل الصدمات الاقتصادية من قبل نتيجة للاحتياطات المعدة سلفًا؛ فمسألة العقوبات على دول مثل روسيا والصين كانت دومًا مسألة وقت. وقد عملت روسيا منذ الأزمة مع الغرب بعد ضم القرم على بناء منظومة مالية متكاملة، وقد استعدت هذه الدول للعقوبات المحتملة بإجراءات استباقية، مثل خفض استثماراتها في الغرب، وتقليص حصة الدولار من احتياطاتها الأجنبية، وبناء نظم مدفوعات خاصة بها، والتركيز على الاكتفاء الغذائي.
روسيا هي أكبر مُصدِّر للغاز في العالم، وثاني أكبر مُصدِّر للنفط، وثالث أكبر مُصدِّر للفحم، كما تُصدِّر كميات كبيرة من الكوبالت والليثيوم واليورانيوم، والبلاديوم المستخدم في صناعة الإلكترونيات، وتنتج عُشر إنتاج العالم من الألمونيوم والنحاس، وخُمس إنتاج العالم من النيكل. وعلى أن أثر هذه الأزمة في الاقتصاد العالمي ما زال يتضح، وتبعاتها ما زالت تتطور، فإن العامل الأبرز في العالم هو ارتفاع أسعار النفط ارتفاعًا غير مسبوق منذ 2008، بجانب ارتفاع قياسي في أسعار المعادن، واضطرابٌ في إمدادات القمح مع ارتفاع أسعاره إلى مستويات غير مسبوقة. وعاقبة ارتفاع الأسعار في الطاقة والمواد الغذائية والمواد الخام موجاتُ تضخم عالية قد تسبب ركودًا عالميًّا.
والانخفاضات الحادة في مؤشرات أسعار الأسهم الأمريكية والأوروبية على حد سواء، هي أبرز التجليات للمخاوف المترتبة على الاقتصاديات الغربية. وقد استثمرت الشركات والمؤسسات العالمية -خصوصًا الأمريكية والأوروبية- في روسيا وأقرضت شركاتها؛ إذ إنَّ روسيا من الاقتصاديات العالمية الصاعدة فيما عرف بدول البرِكس “BRICS”، فإن جميع هذه الاستثمارات الغربية على المحك. وتبقى أوكرانيا الخاسر الاقتصادي الأكبر لانهيار بنيتها التحتية، وشلل اقتصادي شبه كامل، وهجرة سكانها، ودخولها في حرب مكلفة كان يمكن تجنبها بتحقيق السيادة الوطنية بدلًا من دخولها طرفًا في صراع الفيلة.
وستعجل هذه الحرب الاقتصادية من مراجعة دول العالم أنظمتها المعتمدة كليًّا على الدولار الأمريكي كعملة احتياط وعملة مركزية للمدفوعات العالمية، واعتماد دول العالم على الشركات الغربية في تعاملاتها في جل المجالات، سواء المالي أوالإعلامي أو التقني. وقد بدأ شركاء روسيا التجاريون يستعملون عملات مختلفة للمدفوعات، وهذا يضعف مكانة الدولار عملةً احتياطية رئيسة. وستسرع هذه الحرب الاقتصادية من تحقيق الكثير من دول العالم -وخصوصًا الصين- للاكتفاء الذاتي بقدر المستطاع. إن العقوبات الأمريكية والعالمية المفروضة على إيران خيرُ شاهد على أن العقوبات لا تحقق أهدافها السياسية، مع تأثيرها الكبير على المواطن العادي. على العكس تمامًا، فالدول التي تعرضت للعقوبات الأمريكية والغربية استطاعت تحسين اكتفائها الذاتي في شتى المجالات.
ولكن.. ماذا بعد؟!
لا يُمكن التَّكهن بوضوح طبيعة التصعيد المتوقع وسرعته، ولا يمكن التنبؤ بإزالة الولايات المتحدة وحلفائها كافةَ هذه العقوبات على روسيا بعد انتهاء العمليات العسكرية، فالعقوبات لم تكن حبًّا لأوكرانيا، ولكن بغضًا لروسيا. وما زال الطرفان يحملان بعض الخيارات التصعيدية الاقتصادية في جعبتيهما، فأهم ورقة يملكها الغرب هي وقف استيراد الطاقة، وحظر أي تعامل مع البنوك الروسية، وكلاهما سيف ذو حدين. وإن الخلاف بين بعض حلفاء الولايات المتحدة، واعتماد بعض الدول من الحلفاء على الموارد الروسية لا ينذر بتصعيد كبير على الأمد القصير. ولا شك أن الدب الروسي هو أيضًا في جعبته الكثير من الخطوات التصعيدية بعدما استعمل الغرب جلَّ أوراقه، فما زال الغاز الروسي حتى اللحظة يسري في الأنابيب التي تمر بأوكرانيا منيرًا القارة العجوز، كما لم تعاقب الشركات المنسحبة بعد بتأميم أصولها.
إن استخلاص العبر من هذه الأحداث ذو أهمية بالغة لنا في سلطنة عمان، وتُبرز الأحداث أهميةَ التعامل مع محاور مختلفة، والاستمرار في سياسة السلام والنأي بالنفس عن المحاور، وقراءة المستقبل قراءةً دقيقة؛ فلا المحور الغربي سيبقى متسيدًا المشهد العالمي الاقتصادي، ولا الدولار الأمريكي سيبقى أهم العملات وأقواها، وإن مركز الثقل الاقتصادي العالمي ينتقل من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، في الصين تحديدًا. ولا يمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي بكامله لكلفته الاقتصادية غير المعلَّلة؛ لذا لا شك أن الموانئ العمانية قد يكون لها أثر أبرز في التصدير وإعادة التصدير، وتوسيع رقعة الخطوط المباشرة للتكيف السريع مع التطورات الاقتصادية والسياسية.
وعلى المستوى الاستثماري، فإنَّ المستثمرين في حاجة ماسة إلى تنويع استثماراتهم لتشمل أسواقًا مختلفة، فلم تعد الاستثمارات في الولايات المتحدة وأوروبا- وحتى في الدول التي روجت بأنها دول مستقلة حتى وقت قريب مثل سويسرا- “منخفضة المخاطرة” كما كان يُنظر إليها سابقًا.
كاتب في المجال الاقتصادي