الكثير منِّا يظن أنَّ التقنية الحيوية هي نوع من التَّرف الذي ابتُليت به البشرية أو مُحاولة لإشباع الفضول العلمي؛ بل البعض يراها تدخلًا سافرًا من الإنسان في محاولة منه لتغيير خلق الله. ولذا يتساءل البعض هل يجب حقًا الدخول في هكذا بحوث، أليس من الأفضل أن نترك الأمور على طبيعتها تسير كما كانت تسير لملايين السنين ولا نتدخل في هذه المناطق الوعرة والمحذورة؟!
الواقع أن التقنية الحيوية، لم تعد ترفًا أو مُحاولة لإشباع الفضول البشري فحسب؛ بل ضرورة لاستمرار التطور التقني للحضارات الإنسانية؛ لأنَّ الإنسان في القرون الثلاثة الأخيرة، أحرز تقدمًا صناعيًا سريعًا لم يحصل من قبل على مدى عمر الكائنات الحيَّة، ولكنه وبالمقابل لم يُلتفت- إلا مؤخرًا- إلى تداعيات هذا التطور الصناعي وأثره على المناخ والبيئة الطبيعية. فقد أحدث آثارًا سلبية بالغة الأثر بالبيئة المحيطة وبكرتنا الأرضية، وسيزداد هذا الأثر سواء خلال العقود القادمة، ونتيجة لذلك فإنَّ بيئة الأرض والنظام الحيوي برمته سيتأثر؛ فالكائنات الحية لم تتعود على التأقلم السريع والكبير مع التغيرات البيئية السريعة.
ونقصد بالتغير والتأقلم على مستوى الجينات البيولوجية فكما نعلم أنَّ التغيرات الجينية في أغلب الكائنات الحيَّة تأخذ زمنا طويلا قد يصل إلى مئات الملايين من السنين، ولهذا فإن التوقعات تشير إلى أن النظام الحيوي سيتأثر تأثراً كبيراً، لأن الكثير من النباتات والحيوانات البرية والبحرية لن تستطيع أن تعيش مع هذه التغيرات البيئية الكبيرة وقد يؤدي ذلك إلى انقراضها، كما أن أجزاء كبيرة من الأرض ستغمرها المياه وأجزاء أخرى لن تصلح للعيش أو الزراعة أو الرعي، وفي الوقت نفسه فإنَّ المتوقع أن يتزايد عدد السكان على الكرة الأرضية ولذا فمن المتوقع أن تواجه البشرية شحًا كبيرًا في موارد الغذاء والماء في المستقبل القريب، وكما يقال فإنَّ الحروب القادمة ربما تكون بسبب بعض الموارد الطبيعية كمصادر المياه مثلا.
لذا رأى البعض أنَّ أحد الحلول المطروحة لمواجهة هذه التحديات هي التقنية الحيوية، فمن خلال التدخل المباشر في الخريطة الجينية للكائنات الحية، يتم ادخال تغييرات يسمح لها بالتأقلم مع التغيرات البيئية الكبيرة، ولكي تتضح الصورة بشكل أفضل نسوق بعض الأمثلة في هذا الصدد.
فمثلًا.. من المتوقع أن الجفاف نتيجة للتغيرات المناخية المتوقعة سيقلل من إنتاج الذرة وخاصة في بعض الدول الأفريقية؛ وذلك لعدم تمكن نبتة الذرة من التأقلم مع الأجواء الجافة، وهذا الأمر سينعكس سلبًا على الإنتاج الغذائي، لذا فهناك بحوث ومحاولة إيجاد صنف من الذرة مقاوم للجفاف وذلك من خلال التقنية الحيوية.
وهناك تحديات مرتبطة بشح في توفر مياه الشرب وسقي المزروعات، فأغلب النباتات لا تستطيع مُقاومة مُلوحة المياه، لكن في المُقابل هناك نباتات كنخلة جوز الهند مثلاً لها القدرة على النمو عند شاطئ البحر، فهل هناك إمكانية للاستفادة من جيناتها بحيث يتم هندسة نباتات أخرى بتلك الجينات وتصبح أكثر مُقاومة لملوحة التربة، إن ذلك حتماً سيكون حلاً لبعض التحديات التي تواجهنا نحن في السلطنة بخصوص تملح التربة في منطقة الباطنة مثلا.
ولحل مشكلة تقلص عدد الأراضي المناسبة للرعي، فإن بعض البحوث في هذا الصدد، تحاول أن تقوم بزراعة خلايا حيوانية في المختبر بحيث تنمو وتتكاثر في المختبر لتكون لحوما صالحة للاستهلاك البشري للتخفيف من التحديات المرتبطة بتواجد أراض مناسبة للرعي، بينما توجه آخرون إلى محاول تصنيع لحوم من مصادر نباتية شبيهة باللحوم الحيوانية، ومن المتوقع أن تتواجد هذه الأصناف من اللحوم خلال السنوات القادمة في الأسواق العالمية.
ولا تقتصر أهمية التقنية الحيوية على مجالات الغذاء بل لها أهمية بالغة في مجال التطوير الصناعي، فالفكرة الرئيسية في هذا المجال هي تطوير مواد قابلة للاستخدام الصناعي من مواد حيوية، وبذلك لا تكون هذه المواد مضرة بالبيئة، فلقد لوحظ على سبيل المثال أن بعض العناكب تنتج خيوطًا قوية ومرنة، ذهبية اللون تلمع في ضوء الشمس، ولكن هذه العناكب خطيرة ويصعب التعامل معها، كما إن إنتاجها بسيط للغاية، ولإنتاج هذه الخيوط القوية بكميات تجارية قابلة للاستفادة منها وتكون بديلًا صديقا للبيئة عن خيوط صناعية أخرى لها آثار سلبية على البيئة، قام فريق بحثي بزراعة جزء من الكود الجيني المختص من العنكبوت في معزة في نقطة معينة في الخارطة الجينية بحيث إن حليب هذه المعزة يحتوي على هذه الخيوط الذهبية، وبذلك يمكن أن يتم إنتاج كميات كبيرة من هذه الخيوط الصديقة للبيئة بدل الأخرى والتي قد تضر بالبيئة.
ولا شك أن هندسة التقنية الحيوية لها بعض المخاطر وتثير قلق الكثيرين وهو أمر ربما يشعر فيه أغلبنا ومن المتوقع أن تنتج بعض السلبيات ربما بعضها يكون ذات تأثير كبير لكن التحديات الكبيرة تحتاج إلى حلول جريئة والمعرفة البشرية تنمو وتتطور من خلال مواجهة هذه التحديات.
ثمة تطبيقات أخرى للتقنية الحيوية لها أهمية بالغة كالتطبيقات المخصصة بالجوانب المرتبطة بالصحة العامة، فمثلا شهد عام 2021 إنتاج طماطم معدلة وراثيًا في اليابان تحتوي على كميات تعادل خمس أضعاف ما تحتويه الطماطم العادية من ناقل عصبي مُثبط يدعى “جابا” والذي يلعب دورًا مهمًا في السيطرة على مشاعر القلق والخوف والاكتئاب.
وإذا شعرت بالقلق من قراءتك لهذه المقالة فربما عليك البحث عن هذه الطماطم وتناول واحدة منها ليزول عنك القلق الذي سببته لك!
*كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس