في الحادي والثلاثين من أغسطس عام 2006م، أي بعد يوم واحد فقط من رحيل الأديب الكبير نجيب محفوظ، وبينما كانت الأضواء الإعلامية كلها مسلطة على هذا النبأ المهم، غادر عالمنا بكثير من الهدوء والصمت، في مدينة أصيلة المغربية، الرحالة العُماني وصديق أدباء ومثقفي عصره، حسن باقر عبدالرب، المعروف أكثر باسم (حسن بوس). أذكر أن الخبر طار من المغرب إلى عُمان بسرعة، وخيم الحزن على الأدباء العُمانيين، كما خيم قبله على أدباء المغرب، بينما كنتُ أسمع حينئذ عن حسن بوس للمرة الأولى في حياتي وأقول في نفسي: «لهذا الرجل قصة كبيرة، أتمنى أن أعرفها ذات يوم».
لم يمض أسبوعان على رحيله حتى نشر الشاعر العراقي سعدي يوسف في صحيفة «القدس العربي» مقالًا رثائيًّا له بعنوان «ابن عُمان وأميرها» يعبّر فيه عن الود الشديد الذي يكنه لحسن بوس. وبعد أسابيع تبعه مقال رثائي آخر في الجريدة نفسها للناقد والباحث المغربي يحيى بن الوليد بعنوان: «حسن بوس وشرف المنفى لا ذُلّ المكان»، ثم توالت الكتابات عنه، وأحيا اتحاد كتّاب المغرب في أصيلة ذكراه في أحد فنادقها، ويبدو أن هذا الوفاء هو الذي استوقف صديقه المقرّب الشاعر المغربي إدريس علوش فقرر أن يجمع ما كُتِب عن صديقه ويطلب من أصدقاء آخرين كتابة شهادات عنه جمعها في كتاب بعنوان «حسن باقر عبدالرب؛ الرحالة الذي نثر كتبه عبر سُبُل الحياة» وصدر عن مؤسسة عيبال للدراسات والنشر في قبرص عام 2010.
أستطيع القول: إن هذا الكتاب بتنوع شهاداته لأدباء من عُمان والمغرب والعراق استطاع أن يقدم صورة بانورامية لهذا المثقف العُماني الذي لم يؤلف أي كتاب، لكنه «نثر كتبه عبر سُبُل الحياة» كما اختار علوش أن يُعرِّفه مُحِقًّا في العنوان. كان حسن بوس «يشع غبطة بالحياة وينقل هذا الإشعاع النادر إلى من يحيط به وما يحيط به» حسب تعبير سعدي يوسف، وهو ما أكده أصدقاء آخرون له وإنْ بلغة أخرى، متفقين على حضوره الإنساني الباذخ في حياتهم، وهو الرحالة الذي لم تتوقف رحلاته في أصيلة المغربية وحدها التي سكن فيها وآخى أهلها، بل امتدت انطلاقًا من مطرح، إلى الهند، والنيبال، وحلب، والعراق، ومصر، والأندلس، واليونان، وألمانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة، وغيرها. وعندما يسرد حكاياته ومغامراته في هذه البلدان فإنه يبدو – حسب وصف محمود الرحبي- إحدى «شخصيات ألف ليلة التي تقفز من الأرض لتغزو عوالم فارهة بالمغامرة واللامعقول، كالسندباد الذي ينطلق من الأسواق إلى متاهات المتعة والمغامرة»، إنه «موهبة في الحكي» كما يقول الشاعر المغربي محمد الصابر، بذاكرة حديدية لا تفرّط في أبسط التفاصيل، حسب الكاتب والشاعر المغربي عزيز الحاكم. بل إنه استحق – حسب يحيى بن الوليد- وصفًا أطلقه نيتشه على سقراط: «الشخص الذي يتكلم».
وإذا كانت أَحَبّ مدينة للمرء هي تلك التي يشعر فيها بالسعادة، فلا أظن حسن باقر عبدالرب شعر بهذه السعادة إلا في أصيلة. يؤكد ذلك يحيى بن الوليد: «لم يكن حسن بوس سائحًا بالمعنى المبتذل ولا عابرًا كالعديد من الذين عبروا أصيلة. لقد كان متجذرا في المدينة القديمة، وعارفا ببسطائها وأطفالها وجيوبها»، ويؤكده أيضًا المهدي أخريف، الشاعر والمترجم المغربي، الذي سرد أن حسن بوس وقبل أن يكمل عامين من الإقامة في أصيلة «أصبح يدعى إلى الولائم والأفراح ويستشار في الشؤون الطارئة وقضايا الحي والأحياء المجاورة كما لم يكن يفوته السير في جنائز حتى من لا معرفة له بهم». بدهيٌّ إذن أن تحزن أصيلة على رحيله وتبكيه.
هل كان حسن بوس مجرد صديق للأدباء، كما هي حال صداقة زوربا بكازانتزاكيس مثلًا، أو صداقة محمد الباهي بعبدالرحمن منيف، كما يحاول محمود الرحبي أن يقول أم أنه – أي حسن بوس- كان شاعرًا متكتمًا، وله «نصوص شعرية شفيفة» يُسمعها أصدقاءه ثم يخبئها خوفًا من النشر، كما يخبرنا عزيز الحاكم؟. في الحقيقة أجدني ميّالًا أكثر لرأي الحاكم، خصوصًا أنه يورد سبب هذا التكتم، وهو أن حسن بوس «كان يلح في أن يظل مغمورا إلى الأبد». وسواء كتب بوس الشعر أم لم يكتبه، فإن حياته كلها تنطبق عليها عبارة ديفيد هنري ثورو: «حياتي قصيدة، وددتُ لو أكتبها»، تلك العبارة التي سيختارها الشاعر العُماني محمد الحارثي – أحد المشاركين في هذا الكتاب- عنوانًا لكتابٍ عنه بعد عدة سنوات من رحيل حسن بوس.