Image Not Found

أشرف العلوم!

أ. د. حيدر أحمد اللواتي – الرؤية
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

الاستغراق في التنظير في بعض الأحيان يولِّد نتائج غير محمودة، ومن الأمثلة على ذلك محاولة تمييز بعض العلوم وإضفاء نوع من “الأشرفية” لها على غيرها من العلوم؛ بل ربما كان ذلك أحد الأسباب التي ساهمت في إخفاق بعض الحضارات في بعض المجالات؛ إذ إنها ميزت بين العلوم وأسبغت نوعا من التشريف على بعضها دون الآخر.

ويمكن تتبع النقاش في ذلك منذ زمن الحضارة اليونانية، ففي تلك الحضارة، كان تعلم الحرف والمهن اليدوية من العلوم الوضيعة وكان بعض الفلاسفة يرى أنها مخصصة للعبيد والرقيق، وبالمقابل فإنَّ الحكمة أو الفلسفة أشرف العلوم وأعلاها شأنًا، ونتج عن هذه الرؤية الأحادية للعلوم إنجازات ضخمة على مستوى الفكر البشري وإخفاق كبير في رفد البشرية بتقنيات تحدث تغييرا عمليا في حياة الانسان ورفاهيته “فكان لهم بذلك علم قادر على تغيير عقل الإنسان دون أن يكون قادرا على تغيير العالم” كما يقول الدكتور فؤاد زكريا في كتابه الرائع “التفكير العلمي”.

واستمر النقاش حول أشرف العلوم وأعظمها حتى في ظل الحضارة الإسلامية، فكان هناك من يذهب الى ما ذهب إليه فلاسفة اليونان ويعتبر الفلسفة من أشرف العلوم وأعلاها شأنًا، بينما أتجه عدد من العلماء إلى تفضيل علم التوحيد على غيره من العلوم، وهناك من ذهب إلى أنَّ علم الأخلاق هو أشرف العلوم وأعظمها قيمة، وهناك من ذهب إلى أن أشرف العلوم هو علم الفقه.

بل نُسبت أبيات شعرية لعلماء في علوم القرآن والحديث والفقه أفصحوا بأن بقية العلوم ما هي إلا وساوس الشيطان!

كلُّ العُلومِ سِوى القُرآنِ مَشغَلَةٌ // إِلّا الحَديثَ وَعِلمَ الفِقهِ في الدينِ

العِلمُ ما كانَ فيهِ قالَ حَدَّثَنا // وَما سِوى ذاكَ وَسواسُ الشَياطينِ

وهناك من سعى إلى تزهيد الناس في تعلم علوم تعد اليوم من أهم العلوم ولا تجد مجتمعًا من المجتمعات البشرية يستطيع أن يتخلى عنهما وهما علما الهندسة والفلك:

دع المهندس في الأشكال مختبطا // وصاحب النجم يرعى النجم إن طلعا

واقصد فقيها بنور الله مشتغلا // يريك ما ضاق عنه الجهل متسعا

فلا يهمك يوم الحشر هندسة // ولا سؤال عن المريخ كم قطعا

ولن ترى من كتاب خطه ملك // يوم القيامة إلا الذنب والورعا

وبعد عصر النهضة الأوربية أهملت الحضارة الغربية علوم الفلسفة والمعارف المرتبطة بالعلوم الدينية ووجهت وجهها تجاه العلوم الطبيعية وغالت في ذلك غلوًا كبيرًا حتى قال أرنست رذرفورد عالم الذرة المعروف “العلم كله فيزياء، وأما الباقي فهو جمع الطوابع”، وفي ذلك إشارة ساخرة الى العلوم الأخرى. ومن المعروف الموقف السلبي الذي وقفه ستيفن هوكينج من الفلسفة والتي وصفها بأنها ميتة وغير مجدية، وكان لهذا التوجه أثره السلبي الكبير على الحضارة الغربية فانزلقت في اتجاهات مادية بحتة.

ويبدو أن وصف علوم معينة بأنها أشرف العلوم له أثر في وعي المجتمعات التي تنتمي لتلك الحضارات، ولذا نلاحظ أن هذه الحضارات برزت بشكل كبير في تلك العلوم التي عدتها بأنها أشرف العلوم، مقارنة بتلك التي لم تحظ بلقب “أشرف العلوم”.

لكننا نلاحظ اليوم وفي ظل التطور الذي تشهده البشرية أن فضيلة أي علم من العلوم وقيمته وأهميته يظهر أحيانا من عموم منفعته وأخرى من شدة حاجة المجتمع إليه، وثالثة في أهميته في بناء المجتمع فكرًا وعقيدة، ولربما يظهر في أهمية استغناء المجتمع به ورفعة شأنه بين المجتمعات الأخرى.

ولذا فقد لا يكون من صالح المجتمعات أن تسعى إلى غرس مفاهيم أشرفية بعض العلوم لأنَّ ذلك قد يعود بسلبيات جمة، فالنظم القائمة تجعلنا نعتمد على جميع العلوم بشكل يصعب بل يستحيل علينا تمييز بعضها وإهمال أخرى.

إن التطور الذي تشهده البشرية في مختلف العلوم جعلت العلوم برمتها وبأنواعها المختلفة علوما ذات أهمية فائقة وقائمة على بحوث ومعارف عميقة، وسأضرب مثلا بسيطا للقارئ الكريم حتى تتضح الصورة بشكل أفضل، لنأخذ عملية جمع النفايات المنزلية، والتي يعتقد البعض أنَّ الموضوع لا يتعدى جمعها ودفنها في مكان آمن للتخلص منها، ولكن ذلك غير صحيح، فالنفايات المنزلية اليوم تحتوي على نفايات شديدة الضرر بالبيئة وتؤثر سلباً على حياة الإنسان- البطاريات مثلًا- ولذا يجب التخلص منها بحذر، وبالمقابل هناك نفايات يمكن الاستفادة منها وإعادة تدويرها، وهناك نفايات عضوية يمكن الاستفادة منها كسماد مفيد للزراعة، كما أن متابعة الأماكن المخصصة لدفن تلك النفايات تحتاج إلى معارف علمية عميقة ومتابعة دقيقة لها، حتى نتحقق من أنها لا تتسرب إلى المياه الجوفية التي تعتمد عليها المجتمعات البشرية في سقي المزروعات وأحيانا تستخدم كموارد لشرب المياه.

ولك أن تتصور عزيزي القارئ أن تخلو مدننا من متخصصين في علم إدارة النفايات وما سيؤول له حالنا عندئذ، فهل سيستطيع الفيلسوف أن يغوص في فلسفته والروائح الكريهة تملأ أنفه؟! وهل سيجد عالم الفيزياء مكانا آمنا من النفايات لإجراء تجاربه؟! وهل سيجد الفقيه مكانا لإلقاء درسه؟! إن ذلك سيرفع حالة الطوارئ في مدننا وسيتحول علم إدارة النفايات إلى أهم العلوم وأعظمها قيمة عند الإنسان، فبدونه لا مكان لتعلم العلوم الأخرى بل لا مكان يجد الإنسان فيه راحته.

إننا نرى أن النقاش حول أشرفية بعض العلوم على غيرها هي صورة من صور الترف الفكري العقيم الذي ابتليت به البشرية ولا يعود بأي فائدة تذكر ولم يعد له قيمة ولا مكانًا في عالمنا الحاضر، وعلينا استبداله بمفهوم أروع وأكثر واقعية وهو تكامل العلوم وتداخلها فبذلك ترتقي المجتمعات وبه تتطور.