عُمان: كتبت- مُزنة الفهدية
مختصون لــ«عمان»:
مفاهيم مغلوطة تحصر الإنتاجية بوقت الدوام وأروقة المكاتب
الوظيفة وسيلة لحياة أفضل.. وساعات العمل الطويلة تناقض الاستقرار الأسري
يطرح اليوم في الكثير من الدول موضوع الإنتاجية وارتباطها بعدد ساعات العمل وما إذا كانت الإنتاجية تزيد كلما زادت ساعات العمل أم العكس. وعمدت الكثير من الشركات الكبرى في العالم إلى تقليص عدد ساعات العمل اليومية لحث الموظفين على زيادة الإنتاجية وإتقانها، منطلقة من فكرة أن بقاء الموظف ساعات أكبر بين أسرته تحفزه على الإنتاج وتضاعف نشاطه وتجعله أكثر قدرة على التركيز.
وأعادت الإجراءات التي تم تطبيقها خلال جائحة كورونا «كوفيد19» بدءا من العام الماضي طرح هذه القضية على نطاق واسع، بل إن بعض الدول خفضت ساعات العمل فعلا.
ومع اتخاذ سلطنة عمان إجراءات لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة وتحديث آليات وبرامج العمل وإعلاء قيمة ومبادئ وتبنّي أحدث أساليبه وفق ما أكد عليه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، فإنه من الواجب إعادة النظر وفق رؤية علمية في ربط ساعات العمل بالإنتاجية، والبحث عن أساليب حديثة في تحفيز الموظف على الإنتاجية والمهنية في عمله وتقريبه من أسرته أكثر من إبعاده عنها.
واستطلعت «عمان» آراء عدد من المتخصصين في المجال التربوي، ومتخصصين في علم النفس والاجتماع، وعدد من الموظفين، الذين اتفقوا على أن تقليص ساعات الدوام سواء بالنسبة إلى الموظفين أو الطلبة، يساهم في زيادة الاستقرار الأسري، موضحين أن الجميع يعتبرون الوظيفة تمثل وسيلة لتحقيق غاية، وهي تكوين حياة أسرية أفضل، وتوفير مستلزمات الحياة الأسرية المنشودة، ولكن إذا أخذ العمل من وقتهم على حساب الأسرة، فإن الهدف الأساسي سيتم تدميره، ولن يكون للعمل معنى.! مناشدين الجهات المعنية بتقليل ساعات العمل في القطاعين العام والخاص، وتقليل دوام المدارس، وضرورة تحديد هدف وطني لتعزيز تحقيق التوازن بين العمل والأسرة.
فهم مسار الإنتاجية
بداية يرى الدكتور رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة أن هناك حاجة إلى رؤية أكثر عمقا في فهم مسار الإنتاجية المؤسسية، ورصد إشكاليات الفهم الحاصل نحوها من خلال نظرة شمولية تكاملية، تضبط خلالها مسارات عمل المؤسسة وفق معايير دقيقة للحكم على المنجز الفعلي والفاقد في ظل حجم الموارد والإمكانات، واعتماد موجهات مقننة لقياس الأداء بحيث يدرك الجميع خلاله حدود مسؤولياته عن القصور والإخفاق ويُكافأ على الإجادة والنجاح، فإن ما تعانيه مؤسسات اليوم من ترهل وظيفي ونشوء ثقافات مضادة ومفاهيم مغايرة وتداول لبعض المصطلحات من قبل العاملين بها أو الآخرين من غيرهم مثل: كفاءات خارج الخدمة، وعدم وضوح سياسة مؤسسية في التعامل مع الكفاءات المجيدة، والتركيز على بعض الوظائف دون أخرى، وشعور بعضها بالإقصاء والازدواجية والمحاباة والمحسوبيات وشخصنة العمل المؤسسي وضعف الثقة والشراكة المؤسسية وتداخل الاختصاصات والبيروقراطية وهجرة الكفاءات وغيرها، تحديات في تأصيل الإنتاجية المؤسسية.»
مرتكزات عادلة
ويرى الدكتور رجب أن تخفيض ساعات الدوام لا يضر بمصلحة العمل، لكون منظومة العمل مبنية على مرتكزات عادلة، وفي المقابل تتطلب توافر تشريعات ولوائح ونظم داخلية مرنة تعمل المؤسسة في ظلها، وتصبح العلاقة بين المؤسسة والموظف علاقة تعاقد أخلاقي وقيمي وشعور من الفرد بترقية عمل المؤسسة ووضعها في أولوية مسؤولياته الحياتية، فيعمل من أجل الحفاظ على مبادئها والإعلاء من قيمتها ونقل صورتها الإيجابية المعتدلة للآخر، في حين تأتي استفادة المؤسسة من الإمكانيات البشرية لديها بمثابة فرصة لتعظيم قيمة الإنتاجية بما تمثله من عدالة تنظيمية تعمل على إيجاد بيئة مؤسسية مرنة قادرة على احتواء الكفاءات وتوطينها وبناء أطر فكرية مؤسسية معززة للإنتاجية ومؤصلة للممارسة الأفضل في مجتمع المؤسسة.
البصمة الإلكترونية
وأشار العويسي إلى إجراءات نظام البصمة الإلكترونية كنموذج لإثبات حضور الموظف وتأكيد وقت انصرافه، التي تستهدف العمل على تواجد الموظفين في فترة الدوام الرسمي وحضورهم البدني في وقت واحد، بالشكل الذي يضع المؤسسات في حالة نشاط وتفاعل نظرا لتواجد أغلب عناصر المنظومة، وتقليل الفاقد أو الهدر في الوقت الناتج من إشكالية في انتظام الحضور، خاصة في العمليات الإدارية والإجراءات المؤسسية التي تتطلب تعدد المشاركين في عملية متابعة الإنجاز.
وأضاف : ما يثار من اتجاه بعض الدول العربية إلى تغيير الإجازة الأسبوعية لتكون ثلاثة أيام بدءا من منتصف يوم الجمعة وإلى نهاية يوم الأحد بدلا من يومي الجمعة والسبت، هو أمر سيكون محل نقاش وحوار على مستوى الداخل الوطني، وبالتالي ما قد ينتج عنه مثل هذه التوجهات النوعية إن وضعت لها أنظمة التقنين والضبطية والتقييم واتجهت بشكل مباشر إلى إيجاد بيئة عمل نموذجية للموظف تعمل على تعزيز فرص الإنتاجية لديه، وترقية مساحات الابتكار والمهنية والاحترافية في أداء مهامه الوظيفية، من توقعات باتساع رقعة تأثيرها إلى خارج بيئة العمل، من خلال زيادة مساهمتها في تعزيز التواصل العائلي والأسري، والاستقرار الأسري والاجتماعي، من خلال زيادة الساعات التي يقضيها الموظف بين أبنائه ومع أسرته، لما لها من أثر في تعزيز روح الاستقرار النفسي والشعور بالمزيد من الانتماء الأسري والعائلي، وهي فرصة لتجديد الذات وإعادة هندسة الممارسة اليومية في ظل ضغوط العمل والروتين اليومي الذي يواجهه الموظف.
واختتم الدكتور رجب حديثه قائلا «إن دور منظومة الجهاز الإداري للدولة في ترسيخ ثقافة الإنتاجية من خلال تصحيح المفاهيم المغلوطة والثقافة السلبية المتداولة بحصر الإنتاجية في وقت الدوام وداخل أروقة المكاتب وأن وقت المؤسسة يبدأ بوقت الدوام الرسمي وينتهي بانتهائه، إننا بحاجة إن ترسيخ عادات أفضل في ممارسة الفرد لسلوك الإنتاجية بحيث تسري مع الفرد في كل أحواله كالتزام شخصي بقيمة الإنجاز وقناعة شخصية بأن تكون له بصمة في يومه نحو مؤسسته يتعهدها بالجديد ويضيف لها من خبرات الحياة وتجاربها النوعية.»
استقرار أسري
من جهته يقول الدكتور داوود بن سليمان البلوشي : إن تقليص ساعات العمل بشكل عام تساعد في زيادة الاستقرار الأسري للموظف، خاصة الموظفين الذين يقطعون ساعات طويلة في رحلة الذهاب والإياب للعمل يوميا، حيث يمكن الموظف من قضاء فترة طويلة مع عائلته، كما يستطيع أن يقضي حاجات وأعماله الخاصة والأسرية. مضيفا أنه من خلال التجارب الكثيرة للعديد من الموظفين فإنهم يعانون الأمرين في توقيت الدوام خاصة في فصل الشتاء، حيث يستيقظون قبل آذان الفجر ويذهبون للعمل ويصلون صلاة الفجر في مساجد الطرقات، حتى يتمكنوا من الوصول للعمل في الوقت المحدد لأنهم مرتبطون ببصمة العمل التي أقصمت هي الأخرى كاهل الموظف، أما في رحلة العودة من العمل فإنهم يصلون إلى بيوتهم في وقت متأخر والشمس في ذيل المغيب، وتجدهم يصلون بيوتهم وقد أعياهم التعب والإرهاق من طول المسافة والتوقيت الشتوي، مما يشكل ذلك وجود عقبات في الاستقرار الأسري لدى الموظف من جانب وعدم قدرته الذهنية والنفسية والجسدية على تلبية متطلبات أسرته من جانب آخر.
وأوضح البلوشي أن إنتاجية الموظف اليومية في العمل لا ترتبط بالدوام الطويل للموظف، فكثير من الموظفين يقضون ساعات طويلة في العمل في الأكل والشرب ودخول وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية على شبكة المعلومات الدولية حتى ينتهي وقت الدوام، وتكون الإنتاجية الفعلية لعمله اليومي من ساعة إلى 3 ساعات فقط، أما باقي الوقت فيكون بدون إنتاجية تذكر، فتقليل ساعات العمل أمر وارد وصحي في كثير من الأحيان لكن بوجود شروط وضوابط ومراقبة ومحاسبة تنظيمه من قبل المسؤول المباشر أو من قبل الموارد البشرية بجهات العمل، بحيث يكون هناك مقياس لمدى إنتاجية الموظف خلال اليوم الوظيفي في حال تقليص ساعات العمل اليومي.
وعرج بالحديث حول بعض الجهات التي تحتم عليها استقبال المراجعين لفترات طويلة، فيمكن وضع فترتي عمل يقسم إليها الموظفين، أو يكون فترة واحدة ولكن تكون تلك الجهة وضعت الحلول لاستقبال وتخليص معاملات المواطنين والمقيمين من خلال الخدمات الحكومية الإلكترونية التي سهلت الكثير من الجهد والوقت والمال والعنصر البشري، وعلى جميع جهات العمل الاتجاه نحو تعزيز خدماتها الوظيفية للمجتمع من خلال التقانة الحديثة التي أصبحت اليوم مهمة جدا في تجويد العمل وتطويره والأصدقاء به لأفضل المستويات.
واجبات نفسية واجتماعية
وأوضحت حليمة بنت عامر المطاعنية أن هناك أهمية وضرورة في تقليص ساعات الدوام خاصة بالنسبة للمرأة؛ لأن الدوام المتأخر قد يشعر المرأة بالتعب وبالتالي تقل نسبة الحماس لديها في استقبال أبنائها ويصبح الأمر أكثر فتورا مع الوقت، كما أن ساعات العمل الطويلة تؤثر على واجباتها النفسية والاجتماعية تجاه أبنائها.
ونوهت المطاعنية إلى نقطة مهمة وهي أنه إذا توافق عودة الأم من الدوام مع عودة أبنائها فلن يكون هناك حاجة إلى وجود عاملات المنازل، حيث تجد الأم العاملة الوقت الكافي لقضاء أعمالها أما رجوعها المتأخر يشكل عائقا دون قدرتها للموازنة بين أعمالها داخل المنزل وخارجه.
وأكدت حليمة على ضرورة وجود الأم في المنزل عند وصول الأبناء من المدرسة لأن ذلك ضروري جدا للصحة النفسية للأبناء ويعزز من أهمية مكانة العائلة لديهم، مشيرة إلى أن تقليص ساعات العمل لمدة ساعة تقريبا لن يؤثر على إنتاجية الموظفين بل على العكس يخلق دافعا أكبر لدى العاملين لإنجاز المهام الموكلة إليهم بسرعة وبالوقت المحدد.
مسؤوليات كثيرة
وقالت أميمة الرواحية، إنني كموظفة أواظب يومياً على الدوام لمدة 7 ساعات في اليوم، وبالتالي عندما أعود للبيت تكون أمامي الكثير من المسؤوليات الأسرية، ولأن زوجي يعمل في القطاع الخاص ينتهي عمله في حدود الساعة الخامسة عصرا، ويصل المنزل مساءً، ولا يملك وقتاً كافياً للجلوس مع أفراد عائلته إلا في أيام الإجازات الأسبوعية،» مشددة على ضرورة النظر في مقترح تقليص ساعات العمل وتوحيده لكي يعود جميع أفراد الأسرة في وقت واحد إلى المنزل.
وأكدت الرواحية أن تقليص ساعات العمل يساهم في تقليل الاعتماد على عاملات المنزل في تربية الأبناء، وهو ما ينعكس إيجابا على الأسرة ويحميها من كثيرا من المشاكل النفسية والاجتماعية.
جدول قياس الإنجاز
من جهته قال عوض بن سيف الهشامي : لماذا لا يكون لدينا جدول لقياس إنجاز المهام، بدل جدول متابعة الحضور بالساعات، حيث نرى بكثرة في بعض المؤسسات أنها تحاسب على الحضور والانصراف لكن الإنجاز في مثل هذه المؤسسات لا يكاد يذكر والموظف لا ينجز، وبالنسبة لزيادة ساعات العمل هذا يتناسب عكسيا مع الإنتاجية كلما زادت ساعات العمل نقصت الإنتاجية والعكس صحيح. وينقل الهشامي عن آخر يعمل يحدثني أحد الإخوة في إحدى الشركات الخاصة في سلطنة عمان، انهم خفضوا ساعة واحدة من ساعات العمل وبالتالي زادت الإنتاجية لدى الموظفين. واختتم حديثه أن تقليل ساعات العمل دائما يثمر بالإيجابية وهذا ما قرأناه في تجارب العديد من الدول.
وقال حيدر بن محمد اللواتي «أتفق أن للموظف ساعات محدودة للإنتاج، وتقليص أيام الدوام أو ساعات العمل هذا بدوره يمنح الموظف فرصة أكبر للالتفات إلى حياته الاجتماعية، وقضاء مصالحه الخاصة وبالتالي سينعكس ذلك على الساعات التي يقضيها في العمل من خلال إنجاز المهام المكلف بها لأنه يدرك أن هناك وقتا يمكن من خلاله إنهاء أعماله».