إذا كانت التجربة البشرية ألقت الضوء على أهمية البُعد الأخلاقي وتأثير التربية والبيئة على توجيه العقل وتبنيه لآراء معينة فإن مما يزيد من صعوبة التحديات للجزم بصحة الأحكام التي يتوصل إليها العقل أن الدراسات العلمية الحديثة أضافت عوامل أخرى قد نجهلها ولا ننتبه لها ونحن نعمل عقولنا في كل عبارة نقرأها وموقف نشاهده.
فلقد أوضحت العديد من الدراسات أن الطعام الذي نتناوله والروائح التي نشمها، والمكان الذي نجلس فيه، وغيرها من العوامل غير المباشرة، لها أثر مباشر على القرارات التي نتوصل إليها ونتبناها. فهناك دراسات تشير إلى أنَّ الأطعمة التي نتناولها لها نسبة من التأثير السلبي أو الإيجابي على الحكم على ما نسمع أو نقرأه؛ إذ أشارت دراسات حديثة إلى أن تناول الأطعمة الحلوة يريح الدماغ ويؤثر في حكمه بشكل إيجابي، وبالمقابل فإن تناول الأطعمة أو الأشربة المرة كالقهوة مثلا يجعل الإنسان أكثر دقة في تحليل ما يسمعه أو يقرأه، ويميل إلى النظر إلى الجوانب السلبية على ما يسمع أو يقرأ، ويعلل البعض ذلك بأنَّ عقولنا قد تعودت بربط الطعم الحلو مثلا بالفرح؛ لأنَّ المعتاد لدى أغلب المجتمعات توزيع الحلويات بمختلف أنواعها في المناسبات السعيدة، كما أننا في العادة نربط الذكريات المُفرحة فنصفها بأنها ذكريات حلوة، وعادة ما نصف الذكريات الأليمة بأنها ذكريات مرة، كل ذلك يجعل العقل يربط بين هذه الأمور ويجعله منحازًا في حكمه على الأمور.
وكما إن أسلوب المتحدث وطريقة حديثة وحركة جسمه وملامح وجهه قد تثير الشكوك في نفس الإنسان في صحة ما يدعيه، فقد لوحظ أن رائحة المكان أيضًا قد تثير الشكوك فيما يقوله، فمثلًا لوحظ أن رائحة زيت السمك تثير الشك والريبة فيما تقرأ من نص أو فيما تستمع إليه، ولهذا ينصح أن تغسل يديك جيدًا إذا تناولت زيت السمك قبل حضورك لأي اجتماع حتى لا يؤثر ذلك في حكم الآخرين على حديثك!
ويشير عدد من الدراسات- وربما تدعمها أيضًا التجارب الشخصية- إلى أن الإنسان يكون أكثر تدقيقا فيما يقرأ ويسمع في أول اليوم ومع مرور الوقت يقل تدقيقه في الأمور ولذا فيتسامح في إصدار الأحكام، بل إن هناك دراسات تشير إلى أن القضاة يواجهون هذا النوع من التحديات، فهم يكونون أشد صرامة في الأحكام إلى تصدر منهم في القضايا التي يصدرون عليها أحكامهم في الصباح من تلك التي يصدرون عليها أحكامهم في المساء.
وقد لا نحتاج إلى دراسات كثيرة إلى مُلاحظة أن الإنسان يتساهل بعض الشيء في التدقيق في بعض الأمور عندما يكون فرحا ومسرورا وبالمقابل يميل إلى نقد الأمور والنظر بسوداوية عندما يمر بحالات حزن وربما تكون التجارب الشخصية شاهدة على ذلك أيضًا، ولذا ينصح المرء عادة بألّا يعطي وعودًا وهو في حالة فرح ولا يتخذ قرارًا وهو في حالة الحزن.
ومن الدراسات الملفتة للنظر أن تركيز الإنسان يزيد في الأماكن الدافئة عن الأماكن الباردة، مما يؤثر على قدرته التحليلية وعلى قدرته على الوصول إلى قرارات صائبة، كما أشارت بعض الدراسات أن التأثير السلبي لارتفاع درجة الحرارة على تركيز الإنسان أقل من تأثير الأجواء الباردة على قراراته، ومن هنا يوصي البعض بأن تتحقق من دفء المكان الذي تعمل فيه حتى تقلل من نسبة الخطأ في قراراتك.
إن هذه الدراسات تطرح أسئلة عميقة في مدى إمكانية الجزم بصحة أحكام العقل وأهمية المراجعة المستمرة للأفكار والرؤى التي يتبناها الإنسان، ولربما يكون التشديد على المحاسبة الشخصية التي وردت في النصوص الدينية نظرت إلى هذا الأمر وأخذته في عين الاعتبار فكما أن سلوك الفرد يحتاج إلى رقابة ومراجعة فإن الأفكار والتوجهات الفكرية تحتاج إلى مراجعة وتشديد كبير في المحاسبة والتدقيق، وقد تكون النصوص الدينية التي تشير إلى أهمية التواصي بالحق والتواصي بالصبر ناظرة إلى الموضوع ذاته لكن على المستوى الاجتماعي إذ توجهت إلى المجتمعات الإسلامية برمتها، وكأنها تشير إلى أهمية أن يقوم المجتمع بمحاسبة نفسه أيضًا فيما يتبناه من أفكار ورؤى وأن ذلك لا يقل أهمية من مراجعة الإنسان لأفكاره.
إن تأثر العقل وما يتبناه من آراء ورؤى بكل هذه العوامل يوجهنا أيضاً إلى أهمية الالتفات إلى ذلك وألا يأخذنا الغرور ونجزم بصحة أحكامنا العقلية في كل صغيرة وكبيرة، ونحكم من خلالها على الآخرين بأنهم جاحدون يعلمون الحق ولا يتبعونه أو نتسرع فنحكم على سخافة آرائهم ودونية فكرهم.
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس