هناك حديث لا يتوقف في عددٍ من وسائل التواصل الاجتماعي عن كيفية تحقيق رؤية “عُمان 2040″، وماذا تمَّ خلال الفترة من بداية عام 2021 حتى الآن؟ وكيف يمكن تمويل المشاريع المتضمنة في الخطة الخمسية في ظل وجود هذه الضائقة المالية، وإعطاء الأولوية لخطة التوازن المالي الضرورية لوقف العجز في الموازنة العامة وإيجاد فائض مالي لسداد القروض الضخمة التي تمَّ اقتراضها لدفع رواتب موظفي الدولة الضخمة وسد العجز المتراكم؟ وكيف يُمكن للقطاع الخاص المنظم أن يُسهم بدور كبير، وهو الآخر يُعاني من مشاكل عديدة تستوجب الاهتمام من المسؤولين؟ وكيف يمكن جذب استثمارات خارجية ضخمة ضرورية لتنفيذ مشاريع عديدة في ظل عدم وجود بيئة صديقة وجاذبة للاستثمار وانتشار البيروقراطية المعطلة لأنشطة عديدة، وارتفاع تكلفة وحدة الإنتاج ومعدل سعر الفائدة ووجود قوانين عمل قديمة معطلّة للإنتاجية أو معرقلة لتوفير الوظائف؟
وهل سوف يتمكن الجهاز الإداري للدولة بوضعه الراهن من الاضطلاع بمهمة تنفيذ الرؤية الطموحة من دون إجراء إصلاحات عميقة فيه، ومنها كيفية السيطرة على البيروقراطية آلتي تقتل عددا كبيرا من المبادرات، وتؤخر مشاريع عديدة أو على الأقل تؤجلها وإيجاد أسس للمحاسبة والمساءلة والشخص المناسب؟ وهل يمكن لاية رؤية أن تنجح من دون إجراء إصلاحات هيكلية عميقة في الأنظمة التعليمية والتدريبية والاقتصادية؟ وكيف يمكن الاستفادة من أخطائنا الماضية لتجنب الوقوع في نفس الأخطاء مرة أخرى؟وهل ولماذا وكيف.. إلخ؟
تلك كلها أسئلة مطروحة في عمان في هذه اللحظة، وهي واحدة من تلك اللحظات التي يظهر ويتجلى فيها ومض الفرص التاريخية لهؤلاء الذين يملكون جسارة الإمساك بمصائرهم ومقاديرهم! وعلينا أن ندرس ونتعلم أيضًا من تجارب الدول الأخرى آلتي تمكنت من تحقيق رؤاها بنجاح كبير، وهي لم تكن تمتلك حظوظ عُمان من حيث امتلاكها لأية موارد طبيعية، ومع ذلك تمكنت أن تتحول من دول فقيرة متأخرة من العالم الثالث إلى منظومة العالم الأول المتقدم، مثل سنغافورة الصغيرة مثلاً.
أوجه التشابه، بين النموذج السنغافوري والنموذج العماني من حيث البدايات والظروف والصعوبات والتحديات والتأخر، كثيرة، لكن هناك الاختلافات المتعددة أيضًا والمتمثلة في أن عمان لم تحرز نجاحا مماثلا، رغم أنها دولة أكثر غنى في ثرواتها الطبيعية والتعدينية والبحرية والسياحية ولديها وفرة في الأراضي غير المستغلة بمراحل عمَّا لدى سنغافورة، كما لديها فرص تنموية نموذجية يمكنّها متى ما توفرت الإرادة والتصميم والتخطيط السليم والتكامل والمساءلة والمحاسبة، أن تستغرق زمناً أقل من زمن الرحلة آلتي استغرقتها سنغافورة للتحول من العالم الثالث إلى العالم الأول.
هناك قول منسوب لبيل جيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة، يقول فيه: “الاستراتيجية بدون تنفيذ تبقى حلماً، وأي تنفيذ بدون إستراتيجية سوف يكون كابوساً”.
كل ذلك يعلِّمنا إن تحدي أي عصر ولا سيما عصرنا، هو تحدي الإرادة والإدارة في جميع المجالات، والحقيقة آلتي ننساها أن السياسة التنموية هي في صميمها علم وفن إدارة موارد المجتمعات المختلفة، بما في ذلك الموارد الجغرافية والتاريخية والإنسانية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والإستراتيجية، وبما يُحقق لهذه المجتمعات صحتها ورخاءها ورفاهيتها ونماءها داخل حدودها، وأمنها ومصالحها وراء هذه الحدود.
وتنفيذ أية سياسة تنموية يتطلب الآتي:
أن يكون هناك إجماع سياسي داخل المؤسسة التنفيذية على أهداف أية رؤية أو خطة ومقتنعة بها، ومستعدة بالتضحية من أجلها وتسخير كل الإمكانيات لبلوغ أهدافها، وتحمل أية آثار جانبية مصاحبة، ومن دون وجود هذه القناعات، ومن دون وجود التنسيق والتكامل والشراكة بين مختلف الجهات الحكومية، فإنَّ أية رؤية وأية خطة سوف تبقى حلما جميلا، مثلما حصل لرؤية عُمان 2020 وسائر الخطط الخمسية.
أن تكون الأهداف واضحة ومحددة، لأنه ليس أخطر في السياسة من الرؤى الغائمة أو غير الواضحة أو الحركات التي لا ترى لنفسها مقصدا واضحا تركز عليه بصرها باستمرار أو أن كل جهة تعمل بمعزل عن الجهات الأخرى وأحيانا على التضاد منها. فمثلا لا يمكن أن يكون هدف إصلاح التعليم ممكناً إذا لم تكن الوسائل الضرورية واضحة ومحددة للتغلب على التحديات في المناهج والإدارات المختلفة لإدارة العملية التعليمية والمدرسية ونوعية المدرسين علمياً وسلوكياً ونفسياً وغيرها من الوسائل.
أن تكون لهذه الأهداف إمكانية فعلية ومضمونة أو على الأقل محتملة بنسبة عالية تسمح بتحقيقها، فليس هناك فائدة من أهداف مهما كانت واضحة ومحددة إذا كانت الوسائل والأدوات الضرورية لنوالها ليست موجودة ولا محتملة أو غارقة في الشكليات والعموميات.
أن تتكفل الحياة العامة بأن تعطي لإدارتها أصلح وأنضج وأكفأ العناصر المتوفرة لتحمل المسؤولية، وطنية كانت أو دولية مشهودة، بما يوفر درجة معقولة من الكفاءة يحقق لأي هدف حدا مأموناً من فرص النجاح.
يكون أي هدف من أهداف الرؤية معبرا عنه بمقادير كمية ونوعية قابلة للقياس والمتابعة المستمرة من قبل جهات رقابية كفوءة ومستقلة عن الجهة التنفيذية وقادرة على محاسبة المقصرين.
وضع إستراتيجيات وسياسات وخطط واضحة والتفريق بينها، بحيث إن كل واحدة تدفع بالأخرى للوصول إلى أهدافها، فالهدف يستهدف الوصول إلى غايات ونتائج مطلوبة ومحددة في وقت محدد وينقسم إلى قسمين:الكمي والنوعي، وتوضع لكلاهما مقاييس محددة وواضحة.أما الاستراتيجيات، فهي التوجه العام المصمم للوصول إلى أهداف معينة، أي فن التخطيط وإدارة الموارد بأقصى درجات الفعالية للوصول إلى النتائج المتوخاة، والسياسات فهي مجموعة المبادئ والتوجهات العملية التي تحكم خط سير المؤسسة وأداءها، متضمنة آليات اتخاذ القرارات، أي أنها بمثابة خارطة طريق واضحة، أما الخطط فهي الإجراءات التنفيذية المحددة، أو مجموع العمليات المنظمة التي يجب اتخاذها في تسلسل واضح، أي المراحل التفصيلية التي توضح أسلوب إتمام الأعمال ومسؤولية الجهات المختلفة لتنفيذها، والفترة الزمنية اللازمة لكل عمل.من السهل قياس الأعمال الكمية ولكنها ليست كافية للتعبير عن حقيقة الأهداف المحققة من دون وجود مؤشرات نوعية يمكن قياسها.
وأخيرًا.. تقدر الحياة العامة أن تعطي لأحسن العناصر المتوفرة حقها في الرقابة لإدارة العملية التنفيذية في مجملها وتصحيح أية صعوبات أو انحرافات قد تحصل عن طريق أجهزة القياس الضرورية والمناسبة. كما ينبغي أن تكون الجهة الرقابية مستقلة عن الجهة التنفيذية ومدعومة بالقوانين والأنظمة الضرورية وتمتلك الصلاحيات لمحاسبة أي مسؤول وعزله في حالة إخفاقه المستمر.
إن إعداد الرؤى وتحديد الأهداف والإستراتيجيات والخطط والسياسات ليس عملاً سهلاً، بل هو عمل ذهني وفكري ونظري بداية، يتطلب بذل جهود كبيرة من الجهات المسؤولة عن وضع الرؤى وتحديد الأهداف والإلمام بجوانب عديدة من المشكلة التي يراد التوصل إلى حلول لها، وتوفير جميع الإمكانات البشرية والمادية والتشريعية اللازمة.
إضافة إلى ذلك فإنَّ إيقاع الزمن الذي نعيشه، داعٍ يسبق غيره من الدواعي التي تفرض الحذر في أي تناول لمدة طويلة جدا، ولقد كان هذا صعباً في كل الأزمنة، وهو بالتأكيد أشد صعوبة في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، حيث السباق على أشده في العلوم والتكنولوجيا وتطبيقاتها، وفي الأفكار وانتشارها، وفي العوالم واتصالها، وفي العادات والتقاليد وتبدلها، وفي الاحتياجات وتغيرها، والأجدى أن يكون النظر إلى خمس سنوات أو عقد على الأكثر لأن أكثر من ذلك صعب، مع بقاء الأهداف العامة ثابتة.
وإذا نظرنا إلى مجال واحد فقط وهو مجال المواصلات والاتصالات وما طرأ عليه من معدلات التراكم في السنوات الأخيرة لرأينا صورة باهرة لحركة التغيير. فإذا وضعنا معدلات التراكم وتأثيراتها المتبادلة في كل النواحي، لأدركنا صعوبة استطلاع المستقبل بعد حدود مُعينة بقدر كاف من الثقة وشبه اليقين.
وتظل الأهداف والإستراتيجيات والسياسات والخطط، في حوار مستمر مع الأحداث والأطراف والزمن.