تكثر المطالبات في عالمنا العربي بتطوير البحث العلمي وتوفير المصادر التمويلية له، وإيجاد البيئة العلمية والبحثية اللازمة لإجراء أرقى البحوث العلمية، وهو ما يسعى عدد من الدول للقيام به للحاق بركب العلم والتقنية والتي تراجع فيها العرب كثيرا خلال القرون الأخيرة.
لكننا عندما نرجع إلى تاريخ العلوم والبحث العلمي نجد أن توفر الموارد المالية والمختبرات العلمية الراقية لم يكن دومًا هو العائق أمام تطور البحث العلمي بل نجد أنه وفي كثير من الأحيان لم تكن تتوافر وسائل بسيطة لإجراء البحث العلمي ومع ذلك حقق البعض تطورا علميا ملحوظا فكما ينسب إلى العالمة الشهيرة كوري والتي نالت جائزتي نوبل أحدهما في الكيمياء والأخرى في الفيزياء بأن مختبرها كان بسيطاً للغاية، وكما هو معلوم أيضاً بأن آينشتاين وعلى الرغم من الثورة العلمية التي قام بها فإنه لم يدخل المختبر كباحث تجريبي بل جميع تجاربه كانت قائمة على خياله الخصب.
ومن هنا يرى البعض أن البيئة البحثية لا تقتصر على توفر الخبرات العلمية والبنى التحتية، بل تشمل أيضاً توفير مساحة فكرية لمناقشة وتحليل الأفكار والثقافات السائدة في مجتمعاتنا العربية لأننا نرى عبر تاريخ العلوم والحضارات المختلفة أن النهضات العلمية سبقتها مناقشات فكرية وثقافية كبيرة بل يمكن أن نطلق عليها ثورات ثقافية وفكرية ضخمة، وتضحيات عظيمة قدمها العلماء والمصلحون عبر التاريخ البشري الطويل.
فعندما نرجع إلى الحضارة اليونانية، وكما نعلم، فإنَّ الفصل بين علوم الطبيعة والفلسفة لم يكن موجودًا، فالفلاسفة كانوا هم أيضاً علماء الطبيعة، وقد وجهوا سهامهم إلى الثقافة ومناقشة الأفكار السائدة آنذاك، وأتهم أفلاطون مثلاً بأنه يفسد عقول الشباب ويثير أسئلة محظورة، فلقد كان يعتمد على أسلوب إثارة أسئلة معرفية معينة في أذهان تلامذته، وكان يهدف من خلال هذه الأسئلة أن يدفع الشباب نحو البحث وبذل الجهد للوصول إلى المعارف العلمية والفلسفية المختلفة، وكان مصيره في نهاية المطاف أن سقي السم وقال كلمته المشهورة “لا قيمة لحياة دون سؤال معرفي”.
أما في ظل الحضارة الإسلامية، فإن المفاهيم والثقافة العربية التي كانت سائدة قبل الإسلام وقفت سدا منيعا في نشر العلوم والمعارف عند العرب، فالعرب لم يكونوا أهل علم ولم تكن لهم اهتمامات علمية بل إن الذين كانوا يجيدون القراءة والكتابة في العصر الجاهلي معدودون، وعندما جاء النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم غير تلك الثقافة السائدة ووقف بوجهها، وبعدما تغيرت الثقافة العربية وأصبح للعلم شأن وقيمة كبرى، استطاع المسلمون بناء حضارة عملاقة شامخة لقرون من الزمن
ويمكننا القول إن عصر النهضة الأوروبية كان المثال الأبرز والذي أوضح كيف أن علماء الطبيعة وجدوا أنَّ الثقافة السائدة في تلك المجتمعات هي العائق الأبرز والأهم الذي يقف بوجه تطور البحث العلمي بأوروبا، ولهذا اضطر هؤلاء إلى توجيه سهامهم وانتقادهم إلى الأفكار والثقافة المنتشرة في تلك المجتمعات والتي جعلتهم في مواجهة مباشرة مع رجال الكنيسة، لأن الأفكار المنتشرة في تلك المجتمعات كانت نتيجة لهيمنة الفكر الكنسي على تلك المجتمعات، فمثلا دعا برونو- أحد علماء الطبيعة- إلى رفع سلطة الكنيسة ورجال الدين فأمرت الكنيسة بحرقه حيا، وقام العالم الشهير جاليليو بتأليف عدد من الرسائل في الدين والتأويل، وانتقد احتكار كهنة الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس كما أنه طرح فكرة أن الكتاب المقدس كتاب أخلاقي وغير معني بتفسير القوانين التي تسود الطبيعة وطالب بإصلاح الفكر الديني من خلال رفع سلطة الكنيسة عن الفكر والعلم وعدم تدخلهم في تفسير الظواهر الطبيعية مما ولد ردود فعل معاكسة وشديدة عليه وانتقدته الكنيسة بعنف بل وطالبته إما بالتراجع عن أفكاره أو أن يلاقي مصير برنوا وفضل جاليليو التراجع عن آرائه حفاظا على حياته، حيث قال ضمن مقالة له “سأمتنع عن طرح الأفكار الخاطئة ” وعلى إثرها ظل جاليليو حياً ولكنه ظل حبيس منزله حتى توفي في التاسع من يناير عام 1642.
لقد كشف القرآن الكريم أن أية عملية تغيير تبدأ من تغيير الذات “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” (الرعد:11)، وأوضحت العلوم الحديثة مدى تأثير الأفكار التي تتحول إلى قناعات فكرية في سلوك المُجتمعات وتصرفاتها، فالأفكار التي تتحول إلى قناعات راسخة ليست أمورا مُجردة نظرية بل هي المتحكم والمُسيطر والقائد الذي يقود سلوك المجتمعات وتصرفاتها ومن هنا فإننا نرى ضرورة القيام بمراجعة للثقافة والأفكار السائدة في مُجتمعاتنا العربية، فهل الفكر والثقافة المنتشرة في أوساطنا تلعب دورًا في تراجعنا العلمي؟ إن تاريخ العلوم يشير إلى أنَّ ذلك قد يكون صحيحاً ولذا فإذا كنَّا جادين بحق في سعينا لتطوير البحث العلمي فلابد من إيجاد مُختبرات لمراجعة هذه الثقافة والأفكار جنباً إلى جنب بناء مختبرات علمية وتوفير الإمكانيات المادية، فالعلم والبحث العلمي لا يقوم بأحدهما دون الآخر.