مساءٌ عمانيٌ بامتياز هذا الذي أكتب فيه الآن.. في السادس من أكتوبر عام 2021، هو ضمن تواريخ لا يُمكن أن تُمحى من ذاكرة الذين عاشوا أحد أهم أحداثه مرارةً، أو ربما جمالا.. فقبل يومين مرَّ بشعبنا إعصار شاهين.. ليستيقظ الوطن على ألمٍ وأمل.. لقد صبّت الطبيعةُ غضبتها على أهلينا، ثم وقفت تتأمل من بعيد صنعتهم؛ فوجدتهم متحدين شامخين يزيلون وبالها بجدٍ وحبٍّ وأناة وحلم ورضا وأمل وإيمان ٍعميق كأنهم يقولون: نحن لا ننكسر، نعم نحن العمانيين لا ننكسر.. وقف جيلٌ من آبائنا قبل خمسين عاماً هنا يرتب الرمل ويفرشه بالقار تارة وبالعزم أخرى، ليس الرقم بين ماضينا واليوم كبيرٌ جدًا، فما ورثناه من الأرحام أكبر من إعصار مرّ ورحل، رحل ونحن الباقين هنا.
أن تلهمك الأمسية هذا الزخم العاطفي المشبوب بالعمل لتترك الراحة بعد يوم مرهق، يعني أنّ شيئاً مهما استفزّ فيك الكتابة؛ نعم فملحمةُ اليوم مع الأمس هي السبب.
في زمن ما مرّ على عُمان شاهينٌ لم يرحل سريعًا، تشبث زمنا بعد حضارةٍ كانت عريقةً، فتصحرتْ البلاد بعد غيث، وأجدبت بعد اخضرار، وكأنّ الزمان قد توقف عند شعبٍ عصفت به نوائبه! ثم لينهض كالفينيق في صحوة أدهشت العالم حتى اليوم.. صحوة ٌنفضت كل غبار شاهين الجاثم على قلبها حينذاك، فكيف بشاهين اليوم السريع أن لا تزول آثاره؟!
الهبّة الواحدة لشبابنا وكهولنا، بل وشيوخنا اليوم تقول إن درسَ السبعين محفورٌ في أصول أرومته، وعنفوانُ بناء الوطن لايزال ينبض في العروق دما أحمر يرفرف فيوقظ الهمم التي أيقظها نداء السبعين.. لا يلتفت العمانيون لشهادات التقدير ولا لتسجيل الأسماء وتوثيق صورهم وهم ينظفون شوارعهم وقراهم المنكوبة من شاهين اليوم.. جنودٌ مجهولون يعملون فحسب دون ضجيج؛ لترى صباحك مشرقاً بإعادة العمار، كأسلافهم.
وهي التي ألهمتني هذا المساء اقتربتُ منها أكثر في الأيام الماضية، هي كانت من أولئك الذين نحتوا الصخر في بداية النهضة الحديثة ونهضوا مع بانيها- رحمه الله- لتأسيس الدولة العمانية الحديثة، إنها ممّن علمنا كيف نتجاوز مليون شاهين.. بلقيس بنت جواد الخابورية، ابنة العَلم العُماني الشامخ الأستاذ البروفيسور جواد الخابوري أستاذ اللغة العربية في جامعة كراتشي. هذا الرجل الذي بدأ معلماً حين افتتح مدرسته الخاصة في مطرح عام 1940 ومن ثم مُعلمًا في المدرسة السعيدية بعدها رحل عن عُمان ليزداد علمًا، وعمل في غربته معلمًا في الهند ومُعلمًا في باكستان يكافح الجهل طوال المسير وينهل من الفلسفة والأدب والعلوم، لا يجمع من الدنيا إلا تلك العلوم، وبعض مالٍ ينفقه على تعليم أبنائه فحسب! قامةٌ كهذه هي التي أنجبت بلقيس وإخوتها الذين غرسوا في تراب عُمان كفاح الأستاذ الطويل لمحو الجهل.
ألهمتني الليلة كنجمة مهما ابتعدت عن سماواتها يظل شعاعها ينير دروب العطاء.. تتكلم بتأنٍ، تنطق الحروف بتؤدةٍ، تشتاق للبداية وكأنها لو وُضعت اليوم على طريقها لسلكته كأجمل ما يكون، تسرد القصة فيصيب المستمعَ من روعة السرد مسُ الكتابة فورًا.
في حديثها نكهة الوطن الذي عاهدته أنَّها ستعود.. تقول في بداية مذكراتها- غير المنشورة- والتي كنت محظوظةً بقراءتها: “كان صوت صرير الحبل السميك الذي يتدحرج على العارضة الخشبية والمربوط على دلو فولاذي في أحد طرفيه وعلى ثور في الطرف الآخر لسحب الماء، شيئاً كنت أستمتع بالاستماع إليه، استمعت في صمت ولم يكن أحد ٌعلى درايةٍ بلحظاتي السعيدة، ولم أكن أعلم في ذلك الوقت أنني سأحرم قريباً من تلك اللحظات الجميلة، عندما قرر والدي أنَّه سيأخذنا إلى الخارج، كان مهتما بشكلٍ خاص بتعليم أبنائه، كنت في الرابعة من عمري….”. وتقول بعد قليل من السرد أنها بكت بصمت حين الرحيل “أتذكر كيف كنت أجلس في زاوية وأحاول تذكرالموسيقى الوحيدة التي أحببتها-صوت الصرير، إنها الموسيقى التي قادت الحنين ثم العزم في أعماقها في قسوة الغربة.. يا لعشق الوطن حين يعمل في القلوب عمل السحر! بلقيس التي سافرت في الرابعة عاشت في كراتشي حيث الحياة تضج بالحضارة والعلم والثقافة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، حصلت على درجة البكالوريوس في علم النفس والفلسفة من جامعة كراتشي، ثم الماجستير في الأدب الإنجليزي من ذات الجامعة وعملت كمحاضرة فيها وبعدها قادت تدريب المعلمين في انجلترا، ومن ثم انتقلت إلى الكويت لتعمل في سلك التعليم هناك كمعلمة للغة الإنجليزية مع بداية حياتها الزوجية وتحقق لنفسها الكثير من الرخاء الاجتماعي والمادي، والاستقرار الأسري، لكن رجيع صوت الحبل ما برح يخالج الروح فيقض مضجعها، وأنى للروح أن تستقر إلا حيث كان ميلادها!
لستُ هنا في معرض الحديث عن مشاعر مُعطلةٍ أو سيرةٍ ذاتية في مجال التعليم والعمل فهي أكبر مما سجلتُه ولكنني سجلته لأقول هنا وفي هذه النقطة بالذات، إنّ نداء الوطن حين أتى تركت بلقيس كل ذلك وراء ظهرها لتعود إلى عُمان سنة 1971، مع بداية النهضة حينها لم يكن يهمها ما تركته وراءها من الرفاهية، كان المهم هو الوطن، تقول بلقيس: “أما بالنسبة لموسيقى الحبل فلم أسمعها.. ولكن كلما ذهبت في جولاتي للمدارس في القرى كنت أحرص على الوقوف بجانب الآبار…. وأذهب إلى عالم من الخيال لطفولتي، ما أردتُ أن أقوله هو كم نعرف نحن هؤلاء الذين لم يعبأوا بسوى الوطن في حياتهم، هؤلاء الذين حين جاؤوا لم يفكروا كم سيهبهم وطن البترول من الأموال والوجاهة؛ بل كان جلُّ تفكيرهم، كم سيهب البترول للوطن من تحضرٍ وتقدم ومنافسة على العلم والعمل والبناء، هؤلاء الذين لم يفكروا كم سيشتهرون حين توضع على صفحات الجرائد صورهم، ولكنهم فكروا فقط كيف ستزداد عاماً بعد عام أعداد المتعلمين في بلادهم، هؤلاء هم النموذج المستحق للدراسة والشهرة اليوم، هؤلاء هم المستحقون فعلاً للظهور والتحدث معهم لينقلوا قيم التفاني والعطاء في زمنٍ صار عدد المتابعين على مواقع التواصل هو الفيصل لأهمية الإنسان! وياله من مقياس دنيئ!”.
وأريد أن أقول اغمسوا أطفالكم في تراب الوطن، اصنعوا لهم ذكرياتٍ في جنباته، فالنقش على قلوب الصغار يزهر واحات حين يكبرون. إنَّ هذه الطفولة المفعمة بالحب والذكريات حدت ببلقيس لتكون من جيل التضحيات والبناء في السبعينيات والثمانينيات؛ الذين عملوا- كلٌّ في مجاله- كي يجسّروا المسافة الواسعة التي كانت بين عُمان وبين مسمى الدولة الحديثة.
بدأت بلقيس مشوارها من وظيفة مفتش (المسمى القديم لوظيفة موجه) للغة الإنجليزية بوزارة التربية والتعليم، منها إلى رئيس وحدة تدريس اللغة الإنجليزية بالوزارة، ثم إخصائي لتدريس اللغة الإنجليزية، لتنتقل بعدها لجامعة السلطان قابوس كنائب مدير مركز اللغات، ومحاضر، ثم مدير لذات المركز، عرض سريع لإنجاز عظيم تخللته عقباتٌ كؤود في بناء الهيكلة التعليمية الكاملة لتعليم اللغة الإنجليزية- كلغة ثانية- في السلطنة من الصفر وفي أغلب الأوقات تقول بلقيس إنها كانت تعمل لوحدها تمامًا في كثير من المهام الأساسية التي تحتاج إلى مجهودٍ ذهنيٍ وبدني كبير نظرًا لقلة المختصين في ذلك الوقت، هذا بجانب إعداد معلمين أكفاء لتولي تلك المرحلة الحساسة والذين كان أغلبهم غير عمانيين آنذاك مع تحديات كبيرة تتعلق بتكيفهم مع طريقة بلدانهم في التعليم مما يستدعي تدريبًا من نوعٍ خاص لتشرف هي أو تقوم بالإعداد المهني والنفسي والاجتماعي لهم، ثم إعداد المناهج التي تتلاءم والبيئة العمانية، والإشراف في مناطق لا تصلها سوى طائرات (skyvan) والتي قد تنزلك كما تصف في مذكراتها في اللامكان في الصحراء والحر لعطلٍ مُفاجئ، وتنتظر أنت المساعدة من المكان الذي لا تعرفه أين يقع ومتى سيصل! أكثر ما لفتني في هذا الجزء من مذكراتها بالذات صورة اللامكان والابتسامة المرسومة للجالسين فيه وهي معهم، ولسان حالهم يقول :ليس المهم أن نعرف الموقع بالتحديد، يكفي أننا في عُمان.
السيرة الذاتية المختصرة جداً أعلاه ستكون ناقصة جدا لو لم أذكر أنها كانت ثريةً بالدراسة المتواصلة في الولايات المتحدة للحصول على ماجستير آخر وشهادات أخرى، والحضور المتواصل في المجتمع التربوي الإقليمي والعربي والعالمي متحدثة أو مستمعة.
لم ترَ بلقيس يومًا نقلها للجامعة والمنصب تشريفًا، بقدر ما اعتبرته تكليفًا ساهمت من خلاله في تطوير المكان وتركت فيه أثرًا من عطائها الطويل الطيب المتواصل؛ فالجهد هناك كان منصبّا على تغييرات في المناهج وبناء اختبارات وبرامج تتوافق مع الطالب العماني مما يعني الاستغناء عما كان معمولًا ويعني تكلفةً مادية قررت بلقيس أن تخوض غمار قبولها مع المعنيين لتكون الرابحة!
“حالما تم إنجاز هذه المهمة اعتقدت أنه سيكون من الأفضل لو أنّ دماءً شابةً وجديدة يمكن أن تستلم مني، وبالتالي تقدمت بطلب التقاعد” الله يا للروعة! تتقاعد لأنها تؤمن بحركة الأجيال وضرورة التجديد وعليها أن تفعل هذا كي تستمر في العطاء، العطاء أن تقبل أنّه حان للزمن القادم أن يستلم منك عهدة الزمن السابق وأنت سعيد، هذا التصالح العميق مع الذات يشعرك بالإكبار! شكرًا لك أمّ أميمة على هذا الدرس العميق.
ولأن الشغف لا يموت بالتقاعد، فلم يكن تقاعدها في عام 1998 نهاية المشوار؛ بل أكملته بتدريس اللغة وعلم النفس في الجامعات والمعاهد الخاصة بالسلطنة قبل أن تتفرغ نهائياً اليوم لتتابع من بعيد كيف يكمل الجيل الجديد ما بدأه جيلها الذي كان الإخلاص والوفاء ورد الجميل للوطن هو المحرك الأول لعطائه.. كنت أستمع إلى ذلك في نبرات صوتها وهي تحدثني حيث تخنق العبرةُ السرد، ولازلت ألمسه في حنايا السطور القليلة لمذكراتها؛ فما كُتب بين السطور كان أوسع وأكثر مما سطره القلم.
نحن الصغار حين نكتب عن الكبار دائماً نظل مقصرين غير قادرين على وصف كل التفاصيل، غير أننا سنظل دائمًا معترفين بأننا نعِمنا بجهدهم ولازلنا نتعلم منهم وعلى خطاهم كيف تكون الوطنية.. ونتعلم منهم كيف لا تكسرنا الشواهين مهما علت سطواتها.
القصة تبدأ وتنتهي في أكثر من تواصل عند بلقيس من حضن الأم التي روت قصة الأميرة التي رأت الأمير الجندي وقد نشبت السهام في جسده، تأخرت الأميرة عن زيارة النبع لتعيد الحياة للجندي المصاب، ثم حين تبقت بعض أسهم قليلة أمرت وصيفتها أن تكمل ما بدأت هي، ليستيقظ الأمير على يد الوصيفة فيختارها دون الأميرة.. دموع الأميرة حينها كانت فرحا لنجاة الأمير وأسفا على الحقيقة التي توارت خلف ظروف الحدث الأخير.
في بوحها معي قالت: إن كنت سأتحدث عن جهدٍ بذلته في مشواري فهو لأجل أن لا يظل الأمير (أبناء اليوم) غافلين عن الأميرة (جيل البناء من العدم) ولا بأس أن تتنعم الوصيفة (أبناء النهضة) بنعيم الرفاهية والعلم والدولة الحديثة، فنحن قد أدّينا الرسالة.. قالت لي حين سألتها عن التكريم: “لم يكن التكريم ولا الجوائز نظاما معمولا به كثيرا في زمننا، إنّ الثقة الكاملة التي حصلت عليها من المسؤولين الذين ذللوا لي الكثير من العقبات كانت أعظم تكريم إذ استطعت من خلاله إتمام مهامي وواجبي تجاه الوطن، واليوم يكفيني أن أقف على جانب الطريق لأرى جيلًا تلو جيل يتخرج من أبناء الوطن بدموعٍ ملؤها الفرح والانتشاء”.
وإني أقول ويحق للدموع أن تكون أسىً لتجاهل طال كثيرا من بناة هذا الوطن، أولئك الذين مسحوا غبار أعاصير الجهل والتخلف في الوطن؛ فرفعوا الراية، هؤلاء يستحقون التكريم في حياتهم لأجلهم ولأجل أن تحفر قيم الوطنية العمانية الأصيلة في أبنائنا اليوم قبل أن تجرفهم القناعات الآتية من وراء البحار والتي لا تمت لثقافتنا بصلة، ولكي نؤدي نحن رسالتنا في الاعتراف بالفضل لمن هبوا سريعًا مع قابوس الفذ- رحمه الله- يوم “طبع على جبين عُمان قُبلة الحياة”، كما قالت بلقيس.