عندما فتحت له والدته الباب، وجدته على غير عادته، شارد البال جداً، في حين وجد هو أنَّ كل شيء في المنزل على عادته جداً، فوالده يجلس على الأرض يتأمل في الكتاب المجيد، أما والدته فكانت تعجن طحيناً. وعلى غير عادته، ألقى جسده على الأرض بجانب أبيه. “هل لي أن أحزر ما الذي حدث؟” سأله أبوه، واسترسل يقول: “لقد تفوق أحدكما على الآخر”!
نظر إلى والده بعينين غائرتين ولم يجبه بشيء.
فهو في حوار لأشهر عديدة مع أستاذه ابن سينا، دون أن ينتهي معه إلى نتيجة، فالأستاذ يعتقد بوجود “بُعد” في الإنسان لا يقبل التغيير البتّة، وذلك البُعد يمنح للإنسان “معناه”، في حين يرفض هذا التلميذ العبقري- بشهادة أستاذه- أن يكون ثمَّة “بُعد” لا يقبل التغيير، فالواقع- كل الواقع- مُتغير متحول غير ثابت. بالطبع، فالتلميذ العبقري هذا يستثني إله العالم عن التغيير، ولو قُدّر له العيش إلى يومنا هذا لأُصيب بالذهول ربما، فلقد ظهر في حقل الأذكياء مَن يقول بأنَّ الإله نفسه يقبل التغيير والحركة والتحول!
فشلت كل مُحاولاته لثني أستاذه عن رأيه، ولم يتمكن أستاذه كذلك من أن يُغير تفكير التلميذ.
لكن اليوم حدث أمر غير مُتوقع..
فبعد أشهر من طرحه سؤالاً متكررًا على أستاذه: “ما الذي يمنعك تحديداً من عدم قبول مبدأ التغيير الشامل الذي يحكم على هذا العالم برمته وتُصّرُ على وجود جانب عصي على الحركة؟ وإذا بأستاذه اليوم يلفت عنايته إلى فكرة بموجبها ما عاد بإمكانه أن يُعيد عليه هذا السؤال مرة أخرى… أبدًا!
لقد كان في العاشرة من عمره عندما ذهب إلى الخبّاز مُقابل منزله يطلب منه قليلاً من النار لأجل موقد والدته، فرّدَ عليه الخبّاز بأنَّ عليه إحضار شيء يضع له فيه النار، وإذا بالصغير يمد يده نحو رماد مُتجمع في ركن، ملأ يداه به وقال للخبّاز “ضعه هنا”!
لفت هذا التَّصرف رجلا يمر بالجوار، فوقف يتأمل الموقف بتركيز، ثم تبع الصغير إلى منزله وظل واقفاً عند الباب إلى أن عاد والده من عمله اليومي ليجد أنَّ طبيب الحارة البارع والفيلسوف القدير ابن سينا يقف عند باب بيته.
حدثه ابن سينا عمَّا رأى من ذكاء صغيره، ونببهه أن يُحسن تربيته العلمية والأدبية، وها هو اليوم يُعد من أكبر تلامذة ابن سينا.
لكن.. ما الذي حدث؟ ولماذا لا يُريد “بهمنيار” أن يسأله ذلك السؤال المُتكرر والذي كل أجوبة أستاذه ما كانت بمستوى إقناعه أن هنالك في الوجود رُتبة لا تقبل التغيير؟
عاد بنظراته إلى والده وهو يقول: “لقد قال لي: ينبغي أن لا أجيبك يا بهمنيار، لأنه بناءً على فرضك، أكون قد تغيرتُ وما عُدتُ الرجل الذي طرحتَ عليه سؤالك قبل حين! ردّ والده يقول له: “لقد طرح عليك ما قاله هراقليطس قبل دهر من الآن، بأنه من غير الممكن لأحد يضع قدمه في النهر ذاته مرتين”، فهل أعيت هذه الإجابة عقلك؟
أجاب يقول: “بلى يا أبي، لأني إن قلت له إن التغيير يريد وقتا طويلا جدا حتى ينال من تفكيرك لردَّ عليّ حتما بأنه وفي آخر المطاف، ومهما امتد الزمن، سأكون كائنا آخر، فلو امتد بنا العُمر مع عمر خلايا أدمغتنا الطويلة، فسوف نصل وفق فرضك إلى النقطة الأخيرة من ذلك العمر الطويل، حينها لستَ “بهمنيار” وبتُّ غير “ابن سينا”! لقد نال التغيير فينا ذواتنا.
ردّ والده يقول: “وليكن! أين تكمن المشكلة في ذلك؟” أجاب الابن الذكي يقول: “عندها لن أتمكن أن أتلمس الفرق بين إنسانيتي وبين موقد أمي” ثم غفا يغط في نوم عميق!
يذكرني هذا الحوار بما كتبه “فتحي المسكيني” في مقال له بعنوان “الفلسفة والعلوم الإنسانية” مستعرضًا الأزمة الأوروبية وفق رؤية الفيلسوف هوسرل قال فيه إن العلوم الطبيعية على عطائها الثر للبشرية، قد قطعت صلتها بالأسئلة عن “المعنى”. “معنى” العالم الذي نعيشه، و”معنى” الإله الذي قد نؤمن به، و”معنى” الحرية، و”معنى” الإنسانية التي نحملها!
لقد قطع العلم وعدا على نفسه أن يُجيب عنها، هذا عندما قدم نفسه “نبياً” لعصر “التقننة”، إلا أنه ما تمكن من الوفاء به. لقد اعتذر له البعض بأن مجاله ليس “المعنى” بل “الظواهر”، إلا أنَّ السؤال الذي يفرض نفسه حينها هو: “يتعين بذلك أن نغلق أسماعنا عن الإنصات إلى رجل “العلم” إن حاول الإجابة عنها بصفته “رجل العلم”، وحينئذ من المسؤول عن تقديم إجابة عنها؟!
ذلك، لأنه يتملكنا ذعرٌ أن ينسى الإنسان، تدريجياً، وهو تحت سلطة الآلة الإعلامية الغربية، أنًّ لإنسانيته “معنى” غير كونه شيء من “الأشياء”! كما يتم اليوم جعل المرأة تنسى أنها يجب أن تكون دائمًا أنثى، ويتم جعل الرجل أيضًا ينسى أنه ليس عليه أن يكون دائمًا ذكرا.
وإذا -لا قدّر الله- نسي الآدمي أنه إنسان، تكون الحرب على معنى “الإنسانية” قد ربحت، ومشروع “مَكنَنَةِ الإنسان” قد تمَّ إنجازه بنجاح.