في دراسة حديثة قام بها عدد من علماء الأجنة بحقن خلايا جذعية بشرية داخل صنف معين من القرود، ونتج عن ذلك أجنة يختلط فيها حمض نووي بشري وغير بشري، واستمرت دراسة هذه الأجنة لمدة تصل إلى 20 يومًا ومن ثم تم القضاء عليها.
وقد أثار البحث نقاشًا كبيرًا وجدلًا واسعًا، ربما سيزداد في السنوات القادمة؛ نظرًا للتطور الذي تشهده علوم هندسة الجينات والعلوم الحيوية بصورة عامة، حول البعد الأخلاقي في البحث العلمي، وهل يجب أن يخضع البحث العلمي للقيم الأخلاقية؟ أم أن البحث العلمي لا بُد وأن يستمر في التقدم والتطور دون النظر إلى الأبعاد الأخلاقية.
الأبعاد الأخلاقية ترتبط بالبحث العلمي من ناحيتين؛ هما: الدافعية والهدفية. ويقصد بالدافعية أن تكون هناك ضوابط أخلاقية توجه البحث العلمي قبل الشروع فيه، فلا يصح مثلًا أن نحاول أن ننتج قردًا هجينًا يحمل بعضًا من صفات البشر. أما ارتباط البحث العلمي بالقيم الأخلاقية من حيث نتائج البحث العلمي، فينظر إلى النتائج المنبثقة من البحث العلمي، فإذا أفرز البحث العلمي نتائج تُخالف القيم الإنسانية المتعارف عليها كأن يتوصل البحث العلمي بأن هناك فوارق بين الأجناس البشرية، وأن هناك فوارقَ في مستوى الذكاء بين هذه الأجناس أو أن يوضح البحث العلمي أن قدرات التفكير والمهارات العقلية تفوق لأحد الجنسين (الذكر أو الأنثى) بصورة كبيرة جدًا. فهل يحق للبحث العلمي في هذه الحالة أن يكشف عن هذه الحقائق العلمية ويضرب بعرض الحائط بالقيم الإنسانية التي تؤمن بها البشرية؟
هناك رأي في الأوساط العلمية ينحو إلى القول بأهمية حيادية العلم، وأن العلم لا يمكن له أن يخضع للقيم الأخلاقية؛ لأن العلم والتفسير العلمي للظواهر الطبيعية تنظر إلى الأسباب المادية ولا تنظر إلى النتائج المنبثقة من البحث العلمي؛ بل إن البعض يغالي في هذا الاتجاه ويرى أن القيم الأخلاقية هي قيم نسبية لا أصالة لها، وعليه فلا معنى لاخضاع الحقائق العلمية لهذه القيم النسبية. فمثلًا كانت المجتمعات البشرية عبر العصور المختلفة تنظر إلى الرجل على أنه يتفوق على المرأة بمراحل وأن المرأة دون الرجل، وكانت هذه القيم سائدة في أغلب المجتمعات البشرية، لكن هذه النظرة تغيرت وأصبحت الدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة هي القيمة الخلقية السائدة، ولذا فلا داعِ لأن نضع الحقائق العلمية التي توصل إليها البحث العلمي تحت رحمة هذه القضايا النسبية.
وفي المقابل، فإن هناك من يرى أن البحث العلمي يجب أن يخضع من حيث المبدأ إلى الضوابط الأخلاقية؛ بل يرى استحالة الفصل بينهما، فالبحث العلمي يأخذ قيمته المعنوية من آثاره ومما ينتجه من معارف لها آثار مختلفة، وبالتالي لا يمكن للبحث العلمي أن ينفصل عن القيم التي تؤمن بها المجتمعات، فما هو الدافع وراء البحث العلمي؟ أليست هي أفكار موجودة في ذهن الباحث يسعى إلى التحقق منها ويؤمن بأهميتها وإيمانه بأهمية الفكرة وقيمتها هو المحرك والدافع الذي يدفعه للقيام بالبحث العملي، ومن هنا فهؤلاء يرون أن القول بحيادية العلم أمر نظري لا وجود له واقعًا.
وهناك رؤية يتبناها آخرون تذهب إلى أهمية وضع ضابطة تُحدد القيم الأخلاقية، وعلاقتها بالبحث العلمي وهذه الضابطة تخضع لما يعرف بمعادلة الضرر والمنفعة، فإذا كان الضرر يفوق المنفعة فعلى البحث العلمي أن يتوقف والعكس بالعكس.
لكن المنتقدين لهذا التوجه يطرحون تساؤلات صعبة أمام هذا الاتجاه، فمثلا من يحق له تحديد الضرر والمنفعة، هل الباحث نفسه أم المجتمع العلمي أم الدول التي تدعم البحث العلمي، وهل يحق لدولة ما أن تستفرد برؤيتها أم للمجتمع الدولي الحق في فرض رؤيته.
بل هناك من يُشير إلى أن البحث العلمي إنجاز بشري ولا يحق لأحد أن يفرض رأيه، ولذا فالمجتمع البشري برمته عليه أن يقوم بتحديد الضرر والمنفعة من البحث العلمي. كما إنهم يرون ضرورة أن يسند ذلك بأدلة واقعية وليس مجرد فرضيات تحدد الضرر؛ لأن العقل البشري عمومًا يتجه إلى تضخيم السلبيات أمام الأمور المستجدة مقارنة مع الإيجابيات؛ لأن الخوف من المجهول عادة تسيطر على العقل البشري.
وثمة من يرى أن هذه المعادلة، معادلة الضرر والمنفعة، كانت أحد العوامل الرئيسة في تأخر بعض المجتمعات -وخاصة المجتمعات المحافظة- للحاق بالنهضة العلمية؛ لأن التقنيات الجديدة كان ينظر لها دائما بعين الريبة وأن سلبياتها تفوق إيجابياتها، وبعد أن يتم تداول التقنية في المجتمعات التي آمنت بها تكتشف المجتمعات التي وقفت ضدها بأهمية التقنيات الجديدة وتحاول أن تلحق بالركب بعد أن تأخرت عنه بمراحل.
وبغض النظر عن التوجه الذي نؤمن به ونعتقد بصحته، فإن البحث العلمي في قادم الأيام سيدخل في مناطق قد يعتبرها الكثيرون مناطق محظورة؛ لأن الفضول العلمي لدى البعض لا يقف عند حد.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس