السلطة والسياسة ونظام الحكم (3)
في الحلقة السابقة ذكرنا أن المشاركة الجماهيرية في السياسة أمر مهم و بدون هذه المشاركة ستصاب السياسة بالشلل التام ، نكمل بحثنا و بالله الاستعانة .
تحدثنا أن الإنسان قد يرفض التضحية من أجل المبدأ و القيم لأنه لا يحصل على المنفعة من هذا الفداء ، و لكن إذا طلبت منه التضحية من أجل إنسان فهل سيقبل أم لا ؟
واقعيا إذا نظرت إلى الموضوع من زاويا متعددة ستجد أن كل واحد منا يحب نفسه و هو ما يصطلح عليه بالأصالة الفردية و أساسها المنفعة الذاتية أو اللذة الفردية ، و هناك منفعة أخرى و هي ما يصطلح عليها بالمنفعة النوعية مثلا عندما تقوم بشراء فواكه محببة إلى نفسك و تأكلها من ينتفع بها أنت أم غيرك ؟ الجواب أنت ولا أحد غيرك.
و لكن إذا مرض أحد أفراد الأسرة ، فهذا المرض أدى إلى إيصال الألم لنفسك ، فتبادر بأخذه إلى المركز الصحي لإزالة هذا الألم الذي أصابك و ذلك بمعالجة هذا المريض ، و هذا النوع من المنفعة أنت تتلذذ بها أليس كذلك لأن الألم اختفى عنك بشفاء هذا المريض.
يقول ابن سينا إن أول متلذذ بهذا النظام بالوجود هو الحق عزوجل ، بمعنى أن الله أحب ذاته فعندما خلق الوجود أحبه الخلق ماذا يقول الباري عن نفسه (خلقت الخلق لأعرف) من هنا بدأ التمييز بين الفعل الأخلاقي و بين الفعل اللأخلاقي .
إن أول خطوة إلى الفعل الأخلاقي أن يكون البعد النظري فيه قناعة تامة عند هذا الإنسان فأنت عندما تريد أن تقول لأي شخص تعال و افتدي بنفسك لهذا المبدأ أو لهذا الإنسان ، لأن بهذه التضحية ستزول الآلام الكثيرة عنك و عن الآخرين و تقدم له الدليل ، عندها سيقبل وينتقل الى الخطوة الثانية
و هو البعد العملي إن ما سيقوم به في إيصال منفعة للآخرين هو أيضا سينتفع منه حينها سيكون تصرفه عقلانيا ، فإذا توفر هذان البعدان فإن أي تصرف هو تصرف أخلاقي و إذا فقد أحدهم فهو تصرف غير أخلاقي .
نعود لحديثنا إذا قال حاكم ما للناس افعلوا كذا و هم ليسوا مقتنعين بهذا الأمر فهل عندما يطبقون أوامره يطبقونها بإرادتهم أم لا؟ بلا أدنى شك ليس بإرادتهم لأن أحد البعدين مفقود ، من هنا جاءت فكرة أن الشعب هو مصدر للسلطات .
هناك جزئية مهمة لابد من الإشارة إليها و هي هل يمكن أن تتعدد خيارات الناس في تحقيق أمر ما أم لا ؟ الجواب نعم لنوضح أكثر.
لنفترض أن مجموعة من الناس قالوا نريد تشكيل لجنة معينة لخدمة المجتمع ، و من أجل تشكيل هذه اللجنة اختاروا شخصا معين لرئاسة هذه اللجنة ، أول سؤال يطرح نفسه هو : ما هي صفات هذا الشخص ليترأس هذه اللجنة ؟
الجواب أن يكون مسلما و ملما في مهنته التي اختير لها أليس كذلك ، و عليه سيتم اختياره هنا أنُجِزت الخطوة الأولى حسب النظرية الديموقراطية في المشاركة الجماهيرية .
نأتي إلى الخطوة الثانية بعد اختيار رئيس اللجنة ستتولد أفكار مختلفة عند هؤلاء الناس ، فكل واحد منهم سيطلب أن يلبي هذا الرئيس أو هذه اللجنة اقتراحاته ، إذن تعددت الأهداف و الرغبات و هذا ما يسمى بحقوق الإنسان .
لأن هؤلاء الذين اختاروا رئيس اللجنة هل لهم الحق في إبداء طلباتهم أم ليس لهم الحق ؟ الجواب مؤكد لهم الحق ، ركز معي الآن هذه الحقوق جاءت من الناس مباشرة لم يقل لهم أحد اطلب كذا أو افعل كذا كما هو في المنظومة الدينية .
عندما تقول لفلان إن القران أو النبي أو الامام يقول إن لأخيك عليك حقا أو لأذنك عليك حقا هذه الحقوق هل هي تكليف أم لا ؟ الجواب تكليف لأن التعليمات جاءت من الأعلى إلى الأسفل و قد لا يقبل هذا الإنسان بهذا التكليف ، فهل له الحق في ذلك أم ليس له الحق ؟ مؤكد مثلما لك الحق في القبول فلغيرك الحق في الرفض .
هذا التوجيه العقلاني مداره قناعة الإنسان ، تعالوا معي لنطبقه على السياسة عندما يتم تنصيب الحاكم من أين يأخذ مشروعيته ؟
يقول جان جاك روسو سألخصه لكم (إن المشروعية و الحاكمية تؤخذ من الأمة من داخل الأمة و ليس من خارجها فإذا لم تمنح الأمة المشروعية للحاكم فإنه يستمد مشروعيته من خارج الأمة ) ، من هنا نفهم أن الأمة هي الوحدة المتماسكة ليس لجيل واحد بل لكل الأجيال المتعاقبة ، فأية تشريعات و القوانين يجب أن تكون ضمن هوية هذه الأمة و هو ما يسمى بسيادة الشعب .
سؤال إذا كانت هوية الأمة هي الإسلام و المسيحية و اليهودية و الهندوسية و البوذية اجتمعت في بلد ما حسب نظرية سيادة الشعب هل يمكن اختيار حاكم خلافا لهوية هذه الأمة أم لا يمكن ؟ الجواب لا يمكن إذن ما هو الحل ؟
ستقول نأخذ بالأغلبية و هو الإسلام مثلا باعتبار غالبية الأمة مسلمين ، في هذه الحالة الشخص الذي انتخبه المسلمون يمثل الأمة أم لا ؟ الجواب لا يمثل الأمة بل هو وكيل عن الناخبين الذين صوتوا له هنا هل توجد الديموقراطية في هذا الانتخاب أم لا ؟
لأننا نتحدث عن انتخاب الحاكم من قبل الناس فالديموقراطية مرتبطة بكيفية اختيار الحاكم أما إذا قلت إن هذا الحاكم انتخبه الله عزوجل مثل النبي من يختاره ؟ الله عزوجل ، الإمام حسب نظرية التعين عند الشيعة من يختاره ؟ الله عزوجل . السؤال هنا كيف ستكون فلسفة حكم الحاكم للشعب ؟
نكمل بحثنا في الحلقة (29) أن شاء الله إلى اللقاء .
السلطة و السياسة و نظام الحكم (4)
إلحاقا لما سبق ذكرنا أن قناعة الإنسان في تنفيذ عمل ما يؤدي إلى النتيجة الإيجابية . نكمل بحثنا و بالله الاستعانة.
هل سمعت يوما من شخص يقول إن دولة ما ديموقراطية ؟ مؤكد سمعت ذلك . تعال معي لنتعرف على بعضها. جاء في دستور كازاخستان المادة الأولى ( تعلن جمهورية كازاخستان نفسها دولة ديموقراطية علمانية اجتماعية و قانونية قيمها العليا هي الفرد المواطن و حياته و حقوقه و حرياته).
جاء في الدستور الإيطالي المادة الأولى : (إيطاليا جمهورية ديموقراطية قائمة على العمل) ، جاء في الدستور الفرنسي المادة الأولى (الجمهورية الفرنسية جمهورية غير قابلة للتجزئة ، علمانية ، ديموقراطية و اشتراكية .المادة الثانية (حكم الشعب للشعب و لأجل الشعب).
جاء في الدستور الإيراني المادة الأولى (نظام الحكم في إيران هو جهمورية إسلامية ) . جاء في الدستور العراقي المادة الأولى ( نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديموقراطي) ، المادة الثانية بند (1) (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام ).
لقد وضعت أمامكم نصوصا لدساتير خمس دول في العالم تطبق جميعها النظام الجمهوري و نظام اختيار الحاكم (ديموقراطي) ، و السيادة عند الجميع للقانون ، و الشعب هو مصدر للسلطات ، و حازت هذه الدساتير على قناعة و قبول شعوبهم . و جدير بالذكر أنكم إذا قرأتم دساتير دول العالم الأخرى لن تجدوا أي دولة تخرج نصوصها عن سياق هذه الدساتير.
السؤال : ما هو الفرق بين العلمانية و الليبرالية و الاشتراكية و الرأسمالية و ولاية الفقيه و الشورى ؟ الجواب : العلمانية لا علاقة لها في كيفية حكم الحاكم للشعب ، فهي تفصل الدين عن السياسة و تكتفي فقط بالقوانين الوضعية المدنية .
أما الليبرالية فلا علاقة لها في تكوين القوانين بل هي كيفية حكم الحاكم للشعب ، فهي مرتبطة بحرية الشعب ماذا يريد فلا تسن القوانين دون إرادة الشعب . أما الرأسمالية تقوم على أساس أن رأسمال المال مملوك لبعض الأفراد و الآخرين يعملون لديهم .
أما الاشتراكية فهي جاءت من الفكر الشيوعي كيف ؟ الشيوعية : تقوم على أساس أن الجميع يشترك في وسائل الإنتاج و إشاعة الملكية للشعب و أن لا تكون تحت سيطرة طبقة واحدة في المجتمع .
الاشتراكية : مصادر الإنتاج بيد الدولة و الشعب يعمل و يأخذ ما أنتجه ، فهي جاءت لتكون الواسطة بين الرأسمالية و الشيوعية لماذا ؟
الجواب : الملكية الشخصية موجودة في الاشتراكية بينما الشيوعية ترفض الملكية الشخصية ، الاشتراكية تقبل بالحكومة الديموقراطية و أن تكون مصادر الإنتاج بيد الدولة ، أما الشيوعية ترفضها و تطالب بإلغاء الأوراق النقدية لتكون الموارد التي يحتاجها الفرد تكون متوفرة لديه متى ما شاء و الكل يساهم في الإنتاج ،
الاشتراكية تسمح بالحرية الدينية بينما الشيوعية ترفض الدين كليا . و لكن كلاهما يرفض حرية التعبير و معارضة الحكم ، فالكل يعيش تحت قبة الحزب الشيوعي .
أما ولاية الفقيه علاقتها بالحكم لا بالمحكوم ، فالولي الفقيه لا يتم اختياره من قبل الشعب حيث يقوم مجموعة من الفقهاء من أهل العلم و الدراية باختيار الولي الفقيه الجامع للشرائط الشمولية في شتى مجالات الحياة
و هذا الاختيار يعتقد الشيعة الإمامية أنه تفويض ولائي ثابت من المهدي المنتظر للفقيه .
أما الشورى فهو نظام إسلامي في اختيار الحاكم ضمن لجنة تعرف بأهل الحل و العقد وهم أهل العقل و الحكمة و الفهم من علماء المسلمين ، من أبرز صفات أهل الشورى التبحر في العلم .
نكمل بحثنا في الحلقة (30) إن شاء الله تعالى …. إلى اللقاء
السلطة والسياسة ونظام الحكم (5)
تحدثنا فيما مضى أن الديموقراطية هي كيفية انتخاب الحاكم ، و الليبرالية هي كيفية حكم الحاكم للشعب ، و الاشتراكية هي الواسطة بين الشيوعية و الراسمالية ، و أن نظام اختيار الولي الفقيه لا يقوم على أساس الانتخابات العامة . نكمل بحثنا و بالله الاستعانة .
كان الكلام أن الحاكم يستمد سلطته و شرعيته من الدستور ، و هذا الدستور استمد شرعيته من إرادة و قناعة الشعب به ، و لكن الإجراءات التي سيتخذها الحاكم الحامل لمشروع سياسي معين هل سينظر إلى مصدر السلطة من زاوية طبيعة الإنسان عامة أم سينظر من زاوية جماعة معينة أو مجتمع معين أي منهم ؟
الجواب الطبيعي جدا أن الحاكم سينظر إلى جماعة معينة و مجتمع معين هو الذي انتخبه ، لنقرب المعنى أي دولة تمتلك مصادر للدخل مثل الزراعة ، النفط ، العملة الصعبة الصناعة ، لكي تنظم هذه المصادر ماذا ستفعل ؟ ستؤسس الخطوط التالية : خط التوزيع ، خط الاستهلاك ، خط الإنتاج ، خط العرض ، خط الطلب
المنطق الحداثي الغربي يقول هذه الخطوط يجب أن تُسلَم إلى مصدر السلطات و هو الشعب ، و لكن إذا سُلِمت هذه الخطوط إلى الطبيعة الإنسانية عامة بمعنى أن كل إنسان على الارض يمكن أن تعطيه الدولة أي خط من هذه الخطوط بعبارة أخرى جلب العمالة الوافدة لإدارة هذه الخطوط .
في هذه الحالة كم مصدر للسلطة أصبح الحاكم يستمد مشروعيته منه واحد أم اثنان ؟ الجواب : اثنان بلا أدنى شك ، و الحال يجب أن يكون هناك اتجاه اجتماعي واحد ، و هو الشعب ، فهو من يحدد من يقوم بالتوزيع و من يقوم بالإنتاج و من يقوم بالعرض و من يقوم بالطلب ،
فإذا أرادت شريحة من الشعب توزيع المنتجات الزراعية لتوزعها كما تشاء ، و إذا أرادت عدم توزيعها أيضا لها مطلق الحرية في عدم توزيعها ، لأن الشعب هو من يملك الحق في الاستفادة من هذه المصادر .
السؤال : ما هو المنطق الإسلامي في هذه الخطوط الخمسة ؟ تعالوا لننظر إلى جمهورية إيران الإسلامية الولي الفقيه كيف سيحكم الشعب هل على النظام ليبرالي أم الإشتراكي أم الرأسمالي أي منهم ؟
الجواب : سيحكم حسب مفهوم التفويض الولائي إعادة صياغة القوانين الاقتصادية لتنسجم مع الفقه الاقتصاد الإسلامي ، لمواكبة تطورالاقتصاد الحديث. ركزوا معي رجاء ، السؤال : هل يوجد اقتصاد إسلامي أم لا يوجد ؟
الجواب لا يوجد أنا أتحدث من حيث القواعد و الأسس و النظريات التي يستند عليها الاقتصاد الإسلامي كمنظومة إسلامية اقتصادية متكاملة توجد أم لا توجد ؟ لا توجد ، لنوضح أكثر ،
الآن أنت تريد أن تفتح مشروعا تجاريا أو صناعيا و تريد تنفيذ هذا المشروع حسب الشريعة الإسلامية ، على أي نظرية إسلامية ستنفذه ؟ و هل توجد عندك نظرية أم لا توجد ؟ يمكن أن تقول توجد . إذن أين هي ؟
أنا عندي على الأقل سبع نظريات اقتصادية طرحها الفكر الحداثي وهي : نظرية الاقتصاد الجزئي ، نظرية المدرسة النقدية ، نظرية الاقتصاد الكلي ، نظرية القيمة المضافة ، نظرية التجارة الدولية ، النظرية الماركسية في الإنتاج ، نظرية تقاسم الإنتاج
و أنت منذ 14 قرن هل توجد عندك نظرية واحدة من هذه النظريات في الاقتصاد الإسلامي ؟ الجواب لا توجد لماذا ؟ الجواب : أولا إنك اعتمدت و استوردت أنظمة اقتصادية غربية قامت على نظريات صاغتها عقول مفكري الغرب لبيئتها و ليس لبيئتك
و الدليل جاء في المادة 25 من الدستور العراقي الذي أشرفت عليه المرجعية الشيعية في العراق ما يلي ( تكفل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة).
ثانيا : الوصفات الاقتصادية الإسلامية فيها خلل ، و هذا الخلل هو الذي تداركه الولي الفقيه في إيران في مسالة الخمس عند الشيعة الإثنا عشرية ،لأن الوصفة التي يطبقها الشيعة فيها خلل ، جاء الولي الفقيه و ألغى هذه الوصفة والدليل
جاء في المادة 45 من الدستور الإيراني ( الثروات و الأملاك العامة مثل الأراضي الموات و الأراضي المهجورة و الرواسب المعدنية و البحار و الأنهار و كل المياه …و الأملاك مجهولة المالك و العامة تسترد من الغاصبين جمعيها تخضع لتصرف الحكومة الإسلامية تستخدمها وفق المصالح العامة).
و النظرية الاشتراكية ماذا تقول (مصادر الإنتاج بيد الدولة) أي أن المصادر تخضع لتصرف الحكومة أليس كذلك ، فعندما أعاد الولي الفقيه تقنين نظرية الخمس هل طبق نظرية اشتراكية في الاقتصاد لإلغاء و صفة الخمس أم لا ؟ الجواب كلا
لأن النظرية الاشتراكية وجدت لبيئتها ، و الولي الفقيه أعاد صياغة قانون توزيع الموادر المالية ليأخذ البعد الاقتصادي العقلاني الحداثي دون القطيعة مع أصل الدين . قل لي من الذي استفاد من هذا التقنين ؟ الجميع استفاد المسلم (السني و الشيعي) و المسيحي و اليهودي و البوذي بل كل مكونات المجتمع الإيراني بعدما كانت فئة معينة من الشعب هي المستفيدة منه
مما يدل أن الفقه الذي يقول لك هذه المعاملة التجارية حرام و هذه حلال يجب أن يكون عنده منطق اقتصادي يتحدث به معك ، وهذا يدعونا إلى مراجعة الوصفات الاقتصادية التي نقدمها للناس ، و لا يكون ذلك إلا بتقديم أطروحة متكاملة في الاقتصاد الإسلامي ، الفقه وحده لا يفي بتقديم هذه الأطروحة لماذا ؟
لأن الفقه وحده يشكل ما نسبته 5 بالمئة من المعارف الدينية ، و الاقتصاد الإسلامي كما يقول السيد محمد باقر الصدر مرتبط بالعقيدة ، مرتبط بالمفاهيم الإسلامية بالكون و الحياة ، مرتبط بالأحاسيس ، مرتبط بالسياسة المالية ، مرتبط بالنظام السياسي ، مرتبط بأحكام الملكية ، مرتبط بالأحكام الجنائية في الإسلام
من هنا تأتي الحاجة إلى الفقيه الشمولي الحائز على الرؤية الفقهية و السياسية الواسعة المدرك لاحتياجات العالم الإسلامي و يلبي متطلبات الأمة .
نكمل بحثنا في الحلقة (31) إن شاء الله تعالى….. إلى اللقاء
السلطة والسياسة ونظام الحكم (6)
قال (الدكتور محمود الخالدي) في كتابه (نقض الديموقراطية ص 31) ( إذا كان النظام الديموقراطي وليد الإرادة العامة للأمة فإن العقل بمقتضى ذلك يكون هو الحاكم المطلق الذي يصدر الحكم على أفعال الإنسان الصادرة عنه وبالتالي فإن القوانين تكون حتما بشرية).
من حق أي فرد معرفة طبيعة السلطة التي من خلالها يتم بناء الدولة ، فلو جئنا إلى القرن الأول من الهجرة الذي ظهر فيه أول كيان إسلامي ذا سيادة مستقلة دينيا و سياسيا على يد خاتم النبيين (ص) ، فالسلطة الحاكمية ليست مستمدة من الشعب بل من الله عز و جل ، وهذه الجزئية هي التي أوجدت مشكلة كبيرة مع الفقه السياسي بشقيه الحداثي والإسلامي في تحديد طبيعة الحاكمية السياسية.
ركزوا معي رجاء ، أي حكومة لابد أن تبحث عن السلطة السياسية كسلطة حاكمية من تجارب الواقع التاريخي مثلا عندما جاء النبي الأكرم (ص) و أسس الدولة الإسلامية ما هي الحكومات التي عاصرها ؟
الجواب : حكومة الروم ، و حكومة الفرس ، إضافة إلى الممالك المتفرقة في اليمن و الحبشة و عُمان . هذه الأنظمة الرئيسية كانت قائمة في الواقع التاريخي آنذاك ، ففي كل هذه الأنظمة ستجد الشرعية السياسية للحاكم لأنه تولى الحكم ضمن نظام دستوري معين ، كشرعية دستورية له إذا تحدثنا بلغة العصر .
و هذه الحكومة قد تكون ثورية فإنها تستمد شرعيتها السياسية من إرادة الثورة على النظام السابق ، ومن العقيدة المبررة والموجهة لهذه الإرادة . هؤلاء الحكام أصبح لهم الحق في حكم الأمصار التي تحت أيديهم ، فلكل منهم ايدلوجية سياسية خاصة، وعقيدة خاصة ، لأن العقيدة هي السلطة السياسية التي من أجلها قامت هذه الحكومة أو تلك .
كذلك حكومة خاتم النبيين (ص) قامت ضمن عقيدة معينة و هذه العقيدة أعلنت عن طبيعتها أنها تحمل مشروعا سياسيا عنوانه (بعث رحمة للعالمين) وهذه العقيدة تختلف عن باقي الحكومات المعاصرة لها التي تنظر إلى مجتمع معين ، و إلى جماعة الذين انتخبو الحاكم دون سواهم من مكونات شعبهم.
بينما حكومة خاتم النبيين (ص) فإنها تنظر إلى الطبيعة الإنسانية العامة بصرف النظر عن لون الإنسان و جنسه و وضعه الاجتماعي . فإذا جاء حاكم ضمن هذه العقيدة فهل ستكون حكومته حكومة متلونة ، أو زعامة كاريزمية ، أو طموحات في الاعتراف الدولي ؟ الجواب : بلا أدنى شك لن تكون كذلك .
وهذا سيجعل هذه الحكومة حكومة حقة ، سلطة مشتقة من الأشياء و مطروحة من الطبيعة الإنسانية الاجتماعية . سؤال : هل الطبيعة الإنسانية تقبل التفويض الإلهي في إقامة حكم سياسي أم لا خاصة حكومة خاتم النبيين (ص) تحمل مشروعا عالميا ؟
الجواب كلا و الدليل انظر ماذا حدث بعد انتقال خاتم النبيين (ص) إلى الرفيق الأعلى جاءت حكومة الخليفة عمر بن الخطاب بالتعيين ، و حكومة الخليفة عثمان بن عفان جاءت بالشوري اختاره أهل الحل و العقد من ستة أشخاص ، و حكومة الخليفة علي بن أبي طالب جاءت باختيار الأمة له ، ثم جاءت حكومات ملكية بإسم الخلافة الإسلامية.
خلال 35 سنة تغير نظام اختيار الحاكم في الدولة التي أسسها خاتم النبيين (ص) بتفويض إلهي أي التعين ، كما ذهب إليه الماوردي في كتابه (نصيحة الملوك) والفارابي الذي اعتبر الحاكم بالتفويض الإلهي كالقلب في الجسد فبدون القلب لا قيمة للجسد .
انطلاقا من هذا التوضيح هل يمكن الركون إلى نظرية التفويض الإلهي(التعيين) كمصدر للسلطة السياسية أم لا ؟ ركزوا معي على الجواب : إذا اعتبرنا التفويض الإلهي و هو تعامل ميتافيزيقي هل سيصمد أمام النقد في تحديد العلاقة بين السياسة والميتافيزيقيا أم لن يصمد ؟ الجواب لن يصمد يالطبع .
والسبب أولا : الميتافيزيقيا بصرف النظر عن صحتها أو عدم صحتها فهي لا تصلح للتشبيه السياسي لأنها محكومة بالضرورة المطلقة ، بينما السياسة تفسح المجال للامكان و الإرادة الحرة.
ثانيا : إذا طبقنا التفويض الإلهي الميتافيزيقي كنظام للحكم فنحن لسنا بحاجة إلى تحديد نظريات فهم السياسة و كيفية حكم الحاكم للشعب هل بنظام ديموقراطي أو ليبرالي أو رأسمالي أو اشتراكي لأن مقومات الحياة موجودة فيه.
ولكن في تقديري إن الحقيقة التي غفل عنها الكتاب و الباحثون هي أن خاتم النبيين (ص) قال ما أنا إلا بشر مثلكم يوحى إلي و هذا الوحي وظيفته تصحيح المسارات الشرعية لصالح البشر من خلال خاتم النبيين (ص) .
لهذا كانت هناك بيعة الشجرة العامة ، وكانت هناك بيعة الرضوان العامة ، وكانت هناك بيعة غدير خم للخليفة علي بن أبي طالب العامة ، و بعدها بشهرين كانت هناك بيعة للخليفة أبي بكر العامة . الآن كم عدد البيعات العامة حصلت خلال 23 عاما من تأسيس الدولة الإسلامية على يد خاتم النبيين (ص) بتفويض إلهي ؟
الجواب : أربع بيعات. السؤال : هذه البيعات الأربع كانت من أجل إنشاء سلطة الحاكم كحاكم أم من أجل إنشاء سلطة الشعب كشعب أي منهم ؟ .
نكمل بحثنا في الحلقة (32) إن شاء الله تعالى…. إلى اللقاء
السلطة والسياسة ونظام الحكم (7)
كان الكلام حول البيعات الأربع التي حصلت في 23 عاما من عمر عصر التنزيل ، و هل كانت هذه البيعات من أجل إنشاء سلطة الحاكم كحاكم أم من أجل انشاء سلطة الشعب كشعب ؟
نكمل بحثنا وبالله الاستعانة .
الفكر السياسي يشكل هما إسلاميا عاما فتارة يكون في الصعود وتارة في النزول حسب الظروف الموضوعية السياسية والاجتماعية ، وهذا الذي أثار اهتمام علماء المسلمين ومفكريها والباحثين على ضرورة دراسة الفكر السياسي الإسلامي .
وقد رأينا خلال 35 عاما من عمر الخلافة الراشدة كيف تغيرت أنظمة تشغيل الحكم ! وهذا دليل على أنه لم يتم حتى هذه اللحظة بناء العلاقة التعاقدية بين الحاكم والشعب ، علما أنه خلال القرون الماضية ظهرت أحزاب سياسية ، و كيانات سياسية ، سواء تحت مظلة الإمامة حسن المفهوم الإصطلاحي لها عند الشيعة الإمامية أو الإباضية أو الزيدية ، أو تحت مظلة قيادات مدنية ، فنحن مازلنا في بداية الطريق .
و التعاقد الصحيح عادة يتم بين فريقين كل واحد مستقل عن الآخر مثل البائع و المشتري بينهما علاقة التراضي في عملية البيع و الشراء ، و ليس علاقة الطبيب مع المريض القائمة على تقديم الخدمات الطبية مقابل المال .
و الحاكم قبل أن يصبح حاكما كان فردا من الشعب لا يتمتع بأي قدرة خاصة تؤهله مسبقا لكي يطرح نفسه حاكما ، حتى النبي الخاتم (ص) كان واحدا من أفراد المجتمع المكي ، فمن هو الذي يمتلك القدرة المسبقة على وضع الشرائع و رسم الخطط و تنفيذها للصالح العام .
و لكي يدخل الشعب في علاقة تعاقدية مع الحاكم في عقد الطاعة ، علينا أن ندرك هذه الجزئية و هي هل الأمن الداخلي و دفع الأخطار الخارجية عن الدولة في قوة الحاكم نفسه أم لا ؟ الجواب : كلا ، و إنما هي قوة الشعب ، و إرادة الشعب ، و تنظيم الشعب
في هذه الحالة هل يصح لنا القول أن الشعب بايع الحاكم أم لا ؟ الجواب كلا لأن الشعب هو الذي أنتج بنفسه الخدمات و المنافع لنفسه بواسطة الحاكم ، فالعلاقة هنا قامت كما يقول جون لوك على أساس الرضى المتبادل بين أفراد المجتمع في الحفاظ على الحقوق والحريات .
من هنا نفهم أن البيعات الأربع السالفة الذكر كانت من أجل إنشاء سلطة الشعب كشعب و ليس من أجل انشاء سلطة الحاكم كحاكم ، وكيف ذلك ؟
أولا : البيعة إذا سلمنا أنها من أجل إنشاء سلطة الحاكم كحاكم فإنها ستكون بمثابة السلعة بين الحاكم و المحكوم ، فالحاصل على هذه السلعة يعتبر نفسه قادرا على التصرف بها كيفما شاء بوصف أنها ملكا له ، من هنا يتولد الاستبداد .
ثانيا : وإذا قلنا أن البيعة هي إقرار لسلطة التفويض ، و نحن نعرف أن التفويض تعني أن الحاكم يتسلم الحكم من الصاحب الطبيعي لهذه السلطة ، و أنه مسؤول أمامه في إطار الشروط والحدود التي ينطوي عليها التفويض ،
ومعروف أن صاحب السلطة الطبيعي هي الدولة ، فالدولة لا تتحول إلى الفرد ، و لا تتحدث باسم الفرد لا بإسم النبي ولا بإسم الإمام ولا بإسم الفقيه ولا بإسم القائد المدني ، بل بإسم كيان ذا سيادة . السؤال : من يحدد مرجعية صاحب السيادة ؟
الجواب : السيادة في الفكر الحداثي تعني (السلطة العليا) فالذي يحدد المرجعية إما حكومة تكنوقراط أي حكومة النخب ، أو مرجعية حكومة تيوقراطي أي الحكومة الدينية ، أو حكومة الديموقراطي أي سيادة الأمة .أما في الفكر الإسلامي السياسي فالسيادة تعني (الولاية) السلطة السياسية .
السؤال : ما هي نظرية الولاية في المنظومة الدينية ؟ سالخصها لكم بعيد عن سجالات علم الكلام . قلنا أن الدولة هي الصاحب الطبيعي لسلطة الحاكم ، مما يعني أنه توجد هناك سلطتان : سلطة الدولة وهي سلطة طبيعية أصلية ، وسلطة الحاكم وهي سلطة تفويضية من سلطة الدولة وراجعة إليها ، وتفويض الحق لا يعني التنازل عنه . لنوضح أكثر
طالما نحن بصدد البيعات الأربع إذا جئنا إلى بيعة غدير خم حيث بايع الناس علي بن ابي طالب على الخلافة بعد النبي الخاتم (ص) فحصل على الولاية السياسية على الناس ، و هذه الولاية لا تسقط طالما بقي على رأس السلطة ، وإذا انصرف الناس سقطت عنه الولاية السياسية.
وهذا يقاس على الفقهاء ، علما أن بعض علماء المذهب الشيعي ينفون ثبوت الولاية للفقيه في عصر غيبة المهدي المنتظر مثل السيد الخوئي في كتاب (التنقيح في شرح العروة الوثقى جزء 1 ص 424) ولكن اصحاب نظرية التفويض الولائي للفقيه يصرحون بثبوت ولاية الفقيه.
السؤال : ما معنى التفويض الولائي ؟ لنفترض أنك تحمل وكالة من شخص ما و في صيغة هذه الوكالة أنك تستطيع توكيل الغير، التفويض الولائي هي توكيل الغير بمعنى أن الفقيه في الفكر الشيعي لديه وكالة من المهدي المنتظر ليقوم مقامه ويكون الناطق الرسمي عنه في عصر الغيبة .
نكمل بحثنا في الحلقة ( 33) إن شاء الله تعالى …. إلى اللقاء
السلطة والسياسة ونظام الحكم (8)
تطرقنا في الحلقة الماضية إلى أن السيادة حسب المفهوم الحداثي تعني ( السلطة العليا ) ، و حسب فكر الإسلام السياسي تعني (الولاية) . نكمل بحثنا و بالله الاستعانة .
نحن وجدنا أن السيادة بالمعنى الإسلامي (الولاية) شكل انقاسما في المجتمعات الإسلامية حيث أضيفت إلى إشكاليته التاريخية إشكالية أخرى و هي أن التصور الشيعي و السني لا يقتضيان الدولة، فالخلاف على المجتمع التأسيسي للأمة ، و ليس على جماعة السياسية .
بمعنى أن الخلاف لم يكن على شخص علي بن أبي طالب كمرجعية دينية بعد النبي الخاتم (ص) هذا مُسَلم لدى الجميع أنه من أعلم الصحابة ، و لكن الخلاف هو حول هل الولاية تقتضي أن لا يكون للشعب دور في اختيار الحاكم أم ماذا ؟
فإذا قلنا أن هناك ولاية النبي الخاتم (ص)على الناس مطلقة باعتباره منتخب من الله عز و جل ، و أن الإمام المعصوم حسب المفهوم الشيعي الاثناعشري أيضا ولايته من ولاية النبي الخاتم (ص) على الناس مطلقة ، و أن الفقية ولايته من ولاية الإمام المعصوم على الناس مطلقة ، فكل هذه السلطات جاءت من الأعلى ، فهل يوجد دور للأمة في اختيار أي واحد منهم أم لا يوجد هناك دور ؟ الجواب لا يوجد .
فإذا سلمنا أنه لا وجود لدور الشعب في المنظومة السياسية الإسلامية في اختيار الحاكم ، فلماذا إذن رضي الله عن المؤمنين الذين بايعوا النبي الخاتم (ص) تحت الشجرة ؟ و لماذا طلب النبي الخاتم من الشعب مبايعة علي بن أبي طالب خليفة من بعده في غدير خم ؟ و لماذا طلب الخليفة أبو بكر من الشعب مبايعتة بالخلافة ؟ كل هذه الأسئلة نطلب الإجابة له .
ركزوا معي رجاء على الإجابات ، الآن تصور و أنت مسافر إلى أمريكا أو بريطانيا معقل الحداثة الغربية و طلب منك الإنسان الحداثي أن تعتنق المسيحية بماذا سيدعوك ؟ سيدعوك بالنص من الإنجيل و العكس صحيح إذا أنت طلبت منه أن يعتنق الإسلام ستدعوه بالنص من القرآن الكريم .
و نحن قلنا في الحلقات الماضية أن الحاكم أيا كان هذا الحاكم نبيا أو إماما أو فقيها أو قائدا مدنيا لكي يحكم الدولة إما بالنص من الجهة المرسلة أو الشعب يختار نفسه بنفسه أو أهل الحل و العقد أليس كذلك
ماذا يقول كتاب الله حول دور الشعب مع أنبيائه ؟ جاء في سورة الحديد آية 25 ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط) هل هذا النص القراني أعطى لأي نبي السلطة الحاكمية على الناس بدون موافقتهم أم لم يعط ؟ الجواب لم يعط
فإذا كان النبي و لم يُعطَ صلاحية من قبل الله عزوجل لنيل السلطة الحاكمية على الناس بدون موافقتهم ، فهل يحق للنبي أن ينقل صلاحية حاكميته إلى شخص آخر بدون موافقة الشعب عليه أم لا يمكن ؟ طبعا لا يمكن والدليل البيعات الأربع أكبر شاهد على ذلك.
السؤال : الولاية هنا بيد من النبي أم الإمام أم الفقيه أم الشعب ؟ الجواب الشعب ما يدل أن مفهوم الولاية السياسية لها استقلالية تامة عن مفهوم النبوة و الإمامة و الفقاهة السياسية فيمكن أن يكون شخص ما نبيا و لكنه ليس حاكما وكذلك يمكن أن يكون إماما و لكنه ليس حاكما ويمكن ان يكون شخص ما فقيها ولكنه ليس حاكما .
و الدليل جاء في خطبة للإمام علي (موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب و السنة و التاريخ – محمد ريشهري – جز 4 ص 74 )( أقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون البيعة البيعة قبضت يدي فبسطتموها و نازعتكم يدي فجاذبتموها)
وفي (مسند احمد بن حنبل – تحقيق احمد شاكر جزء 1 ص 537- باسناد صحيح عن علي) الحاكم النيسابوري – المستدرك على الصحيحين كتاب معرفة الصحابة – سؤال الناس عن الخلافة وجوابه (ص) الجزء : ( 3 ) – رقم الصفحة 70))
قال قلت لرسول الله من نؤمر بعدك ؟ قال : (إن تُؤَمِّرُوا أبا بكرٍ ؛ تجدوه أمينًا زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرةِ، وإن تُؤَمِّرُوا عُمَرَ تجدوه قويًّا أمينًا لا يخافُ في الله لومةَ لائمٍ، وإن تُؤَمِّرُوا عليًّا – ولا أَراكم فاعِلين – ؛ تجدوه هاديًا مَهْدِيًّا، يأخذُ بكم الطريقَ المستقيم)َ من هنا نفهم أن دور الشعب دور محوري لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال في اختيار الحاكم
إذا كانت النبوة و الإمامة لا يتمتعان بالولاية الحاكمية دون موافقة الشعب عليهما ، فهل الفقيه في المنظومة السياسية الإسلامية له الولاية على الناس أم لا ؟
ما المقصود من الفقيه في المنظومة الدينية ؟ هناك نوعان من الفقهاء ، نوع يريد أن يتصدر الإفتاء يعني أن يفتي للناس ، هذا الفقيه إذا أراد أن يفتي ، أيا كان هذا الفقيه شيعيا أو سنيا ، عليه أن يحدد موقفه قبل الإفتاء ، هل يقبل بنظام المواطنة في الدولة الحديثة التي يعيش فيها المقلِد أم لا يقبل ؟
فإن قبِلَ بهذا النظام فلا يحق له أن يفتي بخلاف قوانين البلد الذي يعيش فيه المُقلِد ، و إذا لم يقبل ، فهذا يعتبر تدخلا في الشؤون الداخلية حسب المفهوم الحداثي للمواطنة و تهديدا لمنظومتها القانونية مثلا قانون البنوك في الدولة سيكون في واد ، والفتاوى المالية في واد آخر ، قانون الأسرة في الدولة سيكون في واد ، و الفتاوى في واد آخر . .
لأنه إذا كان لدينا 10 فقهاء و كل الفقهاء لهم مقلدون في هذا البلد و كل فقيه يقول بالنيابة العامة عن المهدي المنتظر ، فالحاصل كل الفقهاء أصبحت لهم الولاية على الناس و سترى في كل بيت 6 فقهاء يتحكمون في مصير هذه الأسرة أو تلك ،
السؤال : هل يمكن أن يبقى القانون مكتوف الأيدي حينذاك ؟
الجواب كلا بل سيكون مدعاة إلى إنشاء منظومة مرجعية دينية مستقلة في كل بلد ، وهو ما حدث في بعض الخطابات السياسية في بعض الدول الإسلامية (المرجعية للدولة) ككيان مدني مستقل ، إضافة إلى بعض الدراسات حول إمكانية وجود مرجعية دينية محلية ، مرفق لكم ملف بالغتين (العربية والإنجليزية) للفائدة.
هنا يأتي أهمية دور النوع الثاني من الفقهاء في حل هذه الإشكالية ضمن المنظومة السياسية الإسلامية .
نكمل بحثنا في الحلقة (34) والأخيرة إن شاء الله تعالى… إلى اللقاء
السلطة والسياسة ونظام الحكم (9)
يقول (حسن قبيسي) في كتابه ( الفكر العربي إشكالية المنهج ص 78) ( أن ليس في بلادنا منهج بحث ناجز جدير بهذا الاسم أو جدير بالدفاع عنه إذ ليس في بلادنا هندسة فكرية بل فكرية و حسب).
هذه التجربة الفكرية تفضي تلقائيا لتعطيل النمو التاريخي للحقل الإنساني الخاص بمجتمعاتنا ، من هنا يمكننا أن نلتمس غلبة الفكر الحداثي على تراثنا السياسي المعاصر، و التي تبدوا شديدة التنوع و الاختلاف ، و لكي نقارب الوقائع و الأهداف التاريخية للمقدار الذي يقربنا من المفاهيم و التصورات في السلطة السياسية في العالم الإسلامي .
وما تنامى بين ثناياه بين السلطة و الدين نجد أطروحة ولاية الفقيه في مقابل الاختيار و الشورى ، و هذا النوع الثاني من الفقهاء ، الذين نادوا بضرورة وجود حكومة إسلامية ، حصروا الشرعية الحاكمية المطلقة للفقيه بين سلطة أو ولاية (المهدي المنتظر) المطلقة و الفقيه الناطق الرسمي للإمام وبين الأمة الإسلامية التي تجتمع تحت مظلة الفقيه ،
جاء في (الفقيه والدولة – فؤاد ابراهيم ص 422-423) عن (الإمام الخميني) (إذا نهض في تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمر المجتممع ماكان يليه النبي (ص) إشارة إلى الولاية المطلقة للفقيه
فأصبحت لدينا التركيبة السياسية ثلاثية الأبعاد ( السلطة ، الفقيه ، الأمة ) من هنا نفهم أن نظرية ولاية الفقيه جاءت أولا : لسد الفراغ لحاكمية السياسية عند الشيعةالإمامية ، ثانيا : النيابة عن الإمام الغائب (المهدي المنتظر) استمرار للإمامة ، ثالثا : الولاية للفقيه مطلقة على الناس كما هي للنبي الخاتم (ص) و الإمام المعصوم .
إذا يتذكر القارئ الكريم أنني ذكرت أن الولاية تنبثق من الشعب فإذا قبل الشعب بولاية شخص ما ينتهي الأمر بتنصيبه حاكما عليهم و إذا لم يقبل به الشعب لا ينتخب ، و هذا التأصيل موجود في التراث ، قال (علي بن أبي طالب) في إحدى خطبه ( دعوني و التمسوا غيري و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى عتب العاتب و إن تركتموني فأنا كأحدكم).
و هناك مقاربة أخرى في مسالة الحكم في الإسلام ، و هي رفض النص كتركيبة شرعية في مسألة الحكم ، و إبقاء دور الأمة في اختيار الحاكم بنفسها ، حتى أهل الحل و العقد يجب أن يتم اختيارهم من قبل الأمة ، بالنتيجة ستكون هناك منظومة فقهية شاملة غير مذهبية تستطيع تجاوز المأزق التاريخي ، و إنتاج الصيغة الصحيحة للحكم الإسلامي .
بعد النظر في السلطة السياسية ، و شكل سلطة الحاكم ، و شكل سلطة الدولة ، ينبغي لنا النظر في حدود كل نظرية سياسية سواء ولاية الفقيه ، أو ولاية الأمة على نفسها ، أو سلطة أهل الحل والعقد ، فالنظر في حدودها يتمم النظر في مفهومها ، و يعين ميدانها ، و يميز خصائص هذه النظرية عن غيرها .
فإذا نظرنا إلى ولاية الأمة على نفسها في اختيار السلطة ، نجدها الحصن الحصين لكل السلطات ، و إذا نظرنا إلى أهل الحل و العقد ، فإننا جعلنا للأعلمية في الأمة الإسلامية دورا محوريا في الوصول إلى من يحق له الرئاسة أو السلطة السياسية ، و إذا نظرنا إلى ولاية الفقيه كواقع سياسي إسلامي في الوضع الراهن من حيث المصدر فهي سلطة الدين ، و من حيث القيمة المفهومية فهي سلطة الأخلاق
ينقل عن أحد قادة حركة حماس (محمود الزهار) أنه استلم من دولة ولاية الفقيه 22 مليون دولار لدعم الحركة وزعماء الحركة ما هو مذهبهم ؟ المذهب السني ، هل تشيع منهم أحد ؟ لا أبدا ، بل بقوا على مذهبهم
و عندما وقعت جمهورية فنزويلا تحت حصار أمريكي ، و عانت من أزمة الوقود ، تقدمت دولة ولاية الفقيه في مساعدتها ، بإرسال ناقلات النفط في إدارة نقص الوقود المحلي الناجم عن مصافي التكرير المتداعية ، أمام مرأى و مسمع من أمريكا .
فإذا كان الحل في نظرية ولاية الفقيه كحل عملي و واقعي معادل في التغلب على المشاكل الفقهية و السياسية و الاقتصادية و غيرها ، و تلبية احتياجات الأمة الإسلامية ، فنحن في قلب المجتمع الإنساني .
و أمامنا سلطة دينية مشروعة ، تؤدي وظيفتها الدينية ، المدنية ، المصلحية ذات بعد عقلاني حداثوي أخلاقي ، قائمة على مراعاة القوانين الإلهية ، حينها نستطيع فتح باب حوار مع الفكر الحداثي لأنه مستعد لقبول (الدين الأخلاقي) .
وعند هذا الحد من تحليل المجال الحداثي وجدلية المرجعية بين السلطة والتاريخ يمكننا ان نتوقف هنا إذ ان معالم هذا المجال قد تحددت بوضوح تام من خلال مناقشة مواضيع ذات العلاقة .
وهذا لا يعني غلق باب البحث في الحداثة ، والهوية ، والسلطة ، والتاريخ ، والحضارة ، بل يجب أن تستمر هذه الأبحاث ضمن المشتركات الدينية والإنسانية ، لإعادة بناء عالم السلطة في الوجود الإنساني ، وتطوير قدرة الإنسان وتعزيز سلطته إلى الحد الأقصى ،
الفكر الاسلامي و الحداثي متفقان أن الدولة ، لا تتمتع بمميزات فوقية ، ففوق الشعب لا يوجد اي تجريد اخر، ولا يوجد اي نظام اخر ، ولا يوجد أي فكر يقفز فوق سلطة الشعب ، فالشعب هو الأصل ، هو الحقيقة ، هو التنظيم ، هو الارادة ، فاذا حذفنا دور الشعب فلن يبقى لنا في التاريخ شيئ يذكر.
واخر دعوانا ان الحمدالله رب العالمين.