فجعتُ صباح الثّلاثاء السّابع والعشرين من شهر يوليو 2021، بنبأ رحيل المُفكر العرفانيّ الجليل صادق سليمان جواد، ورجوت أن يكون شائعة عابرة لا أكثر، ولكنّها شمعة من العلم والمعرفة انطفأت، ونجم من التّأمل والفلسفة أفل، نعم، انطفأت حسّا، وأفل ظاهرا، ولكن روحه ستبقى معنا دومًا، فهي إرادة الله، وحكمه على كلّ حيّ.
لم أفقه رسالته قبل الأخيرة لي إلا الآن، وهو يقول لي في رسالته قبل شهر: “مُعظم الوقت أقضيه في خلوة مع النّفس، بين تأمل وقراءة وكتابة ومتابعة للأحداث، أحيانا يخطر أنني قد حظيت بعناية كونيّة تتيح لي التّمهل في وتيرة الحياة، وتفسح لي فرصة تعريض النّظر ما أمكن في طبيعة هذا الوجود، عبر هذه المرحلة الأخيرة قبل الوفاة”.
فلم أفقه عبارته “عبر هذه المرحلة الأخيرة قبل الوفاة” إلا الآن، وقد أرسل لي قبل أسبوعين يطلب منّي أن أبلغ الأصدقاء السّلام ووافر المحبّة، وهذه آخر ما أرسل لي، وقبل سفره قال لي: “أريد أن أزور وأسلم بعد رجوعي من الهند على جميع الأصدقاء والكتّاب في عُمان”، وكنّا بدأنا بجولة إلى الدّاخليّة والظّاهرة والبريمي والباطنة، وكان يقول لي وأنا أصرف عبارته بمعناها: “إنني أتحدّث مع الطّبيعة، مررت على هذه سابقاً، ولكنّه حديثي الأخير معها”.
لم أكن أفقه عباراته، ولا أريدُ الالتفات إليها، ففقده ليس سهلًا، وقبل يومين حدث التّأكيد مع النّاشر لطباعة أول أصدارين له: الإنسان والماهيّة: محاورات في الدّين والفلسفة والشّأن الإنساني مع المفكر صادق جواد سليمان، وكتاب سلامة الفكر بسلامة منهج التّفكير: مقالات صادق جواد، وكان لنا أمل أن يكون رجوعه مع الاحتفاء بتدشين كتابيه، ولكن أمر الله سبق، ولا رادّ لأمره.
وقد قلت قبل فترة بسيطة في شهادتي له في برنامج “كتاب مفتوح من تنظيم مركز حدائق الفكر قلت: “صادق جواد أول ما عرفته في ساحة الشّعب ونحن في نهاية العقد الأول لهذه الذّكرى الاستثنائيّة في الوعي العماني، وبُعيْدها حضرتُ مناسبتين له مستمعًا، وفي عام 2017 كانت محاضرته في الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء حول: كيف تضمن سلامة فكرك، وحينها سألت سؤالا في نهاية الأمسية، ومر الزّمان حتى فبراير 2020، زرته في بيته في روي لأسجل أول حلقة معه من عشر حلقات لمشروع كتابي، فأول ما شاهدني: قال أنت الّذي سألتني في الجمعيّة العمانيّة، قلت: نعم. عمومًا بعد عام من التّواصل مع هذا المفكر، وجدته حالة استثنائيّة، ووجدت العديد من أجوبة التّساؤلات التي بحثت عنها بعيدا، ووصلت حتى أمريكا؛ حيث سافرت لأجلها؛ إلا أنني وجدت أكثر الأجوبة عند شخص لا يبعد عني سكنًا نصف ساعة!
وجدتُ هذا الرّجل الّذي عاش الهند بتناقضاتها، والغرب بصراعه وتياراته، وبلاد فارس والعراق والخليج والوطن العربي بآماله وتطلعاته، وجدته يعيش في عالم الإنسان بمعنى الماهيّة وليس بمعنى الهوّيّات الضّيقة، فقد تخلّص من العالم الضّيق، فيرى الإنسان كإنسان.
هذا الرّجل لم أره في فكره مع البعد الإنساني إلا في حالتين: تنظيم الفكرة ووضوحها مع الصّدق فيها، في البداية كانت إجاباته دبلوماسيّة معي، ولعل هيئتي الدّينيّة جعلته ينظر إليَّ من هذه الزّاوية، إلا أنّه وبعد عشرات اللّقاءات في عام واحد، مع صراحته أخيرًا إلا أنّه لم يخرج عن الصّدق في الفكرة، ووجدت صادق جواد معي هو نفسه مع غيري، لا يتلّون في أفكاره، مع مراعاته لظرف السّائل ومكنته.
سألته متى بدأت تنظر من زاوية مختلفة؟ قال لي: “رأيت نموذجا مختلفا من المعرفة، وهو نموذج الطبيب توماس، والّذي أتى إلى مطرح وأنشأ مستشفى الرّحمة، فهو شخص بسيط جدًا، إلا أنّه يقوم بعمل عظيم جدًا، بيد أنّ منهجه يختلف عن المنهج الّذي نشأنا عليه؛ حيث نشأت في وسط عالم مُحتشم يتصوّر أنّه يملك مقاليد الحكمة والمعرفة، وفي الوقت نفسه أرى هذا الشّخص البسيط من عالم آخر غير عالمنا، فحدث لدي تساؤل في نفسي وأنا صغير في السّن لم أتجاوز الثّانية عشرة من عمري: أين توجد المعرفة الحقيقيّة؟ ظلّ هذا التّساؤل يصاحبني حتى حُسِم، ولمّا حُسِمَ كان لصالح العلم، وليس لصالح العقائد أو الفقه”.
وبعد تسجيل 10 حلقات يمكنني أن ألخص المدار الذي يدور عليه صادق جواد في المعرفة:
أولا: أن تنظر إلى العالم من الخارج، وأن تنطلق من الماهيّة فالهوّيّة، وأن نحاول الرّقي من البشريّة إلى الإنسانيّة كلّما اقتربنا من الماهيّة.
ثانيا: لا تخاصم الماضي وتراثه، ولا الأديان وطقوسها، ولكن عليك أن تعيش مع الاجتهاد الإنساني في عصرك، وأن تساهم في تطويره ورقيه، لا أن تكون نسخة من الماضي.
ثالثا: أن تتعامل مع العالم من خلال المبادئ الأربعة: العدل والكرامة الإنسانيّة والمساواة والشّورى، فهي مرتبطة بالماهيّة، وليست مضافة من الخارج كالقيم، ولا متعلّقة بالوجدان كالأخلاق، وهي الأساس لبناء الدّول، وتنمية الثّقافات، ورقي الحضارات.
رابعا: الاعتناء بثلاثة أمور أساسيّة قبل الاعتناء بالأمور الكليّة والسّياسيّة، ابتداء أن يصون نفسه أي صحة بدنه، ثمّ أن يوسّع من معارفه، بالاستعانة من أفكار الآخرين وبحوثهم، والثّالث الاستقامة.
ولقد لخّص صادق جواد رسالته في الحياة بقوله: “أرجو أيضا أن يكون لكلّ منّا دور في تفعيل هذا التّوجه القائم على تأصيل ثابتٍ إنسانيًا، وتفرّع متسام ثقافيًا، لأجل تحقق حداثيّ حضاريّ، قوميّ إنسانيّ، وطنيّ عالميّ، في ترادف واتّساق… هكذا إلى أن تحين الآجال، فيرتحل كلّ منّا برضا واطمئنان، مغتبطا أنّه ساهم، ولو بأقل القليل، في جعل تجربة العيش على هذا الكوكب، مع تعقيداتها، أيسر وأطيب وأثرى للآتية من الأجيال”.
نعم “إلى أن تحين الآجال، فيرتحل كلّ منّا برضا واطمئنان”، رحل عنّا برضا واطمئنان، صفاء الرّوح، مع حسن العمل، فرحم الله صادق جواد، وعزاؤنا لأقربائه وأولاده ومحبّيه وللعالم العربي والإسلامي والإنساني، والحمد لله على كلّ حال.