عادة يتم التعرف على المُفكرين والمُثقفين في الندوات والمؤتمرات الثقافية أو المكتبات حيث يأتي المشتغلون في الفكر والثقافة من أجل الاطلاع على أحدث الإصدارات التي وصلت من دور النشر العريقة وغير العريقة، ولكني تعرفت لأول مرة على المفكر الراحل صادق جواد سليمان الذي رحل عن عالمنا الثلاثاء الماضي، في مطار مسقط الدولي.
لم يدم لقائي به في المطار لوقت طويل، لكن هذه الدقائق القصيرة أظهرت جوانب عميقة من شخصية الكاتب والمفكر، فحين رأيته توجهت نحوه وسلمت عليه، رد عليَّ السلام بحرارة وترحاب وابتسامة صافية لا تفارقه، سألني عن وجهتي في السفر وسألته عن وجهته، أجابني أنه متجه إلى الكويت، سألته عن السبب فأجاب: “الأيام القادمة ستشهد هذه الدولة الخليجية انتخابات مجلس الأمة وأنا أريد أن أطلع بشكل مُباشر على هذه التجربة الديمقراطية الرائدة في العالم العربي وكيف يمكن أن نستفيد منها”.
المفكر الراحل كان حالة استثنائية في كوكبة المثقفين والمفكرين المعاصرين، وكأنه امتداد لحكماء العالم أمثال “تولستوي” و”غاندي” وغيرهما، فقد كان متعمقًا في قراءة مختلف الأفكار والفلسفات الغربية والإسلامية، ويظهر ذلك واضحًا في المحاضرات التي كان يلقيها.
تشرفت بحضور محاضرة أو اثنتين من محاضراته في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، وكان-رحمه الله- يستعرض في محاضراته آراء واتجاهات مختلف المدارس الفكرية بسلاسة دون أي تعقيدات في المصطلحات، وهذه الطريقة تذكرني بطريقة الدكتور علي الوردي الذي كان يحرص دائمًا في كتبه على استخدام الألفاظ والمصطلحات السهلة والابتعاد عن الغموض والمصطلحات الصعبة والمعقدة، ومن يجلس مع المفكر الراحل كان يُلاحظ ذلك.
البساطة في الإلقاء بالمحاضرات كان يقابلها أيضًا بساطة شديدة في الملبس وطريقة العيش والتعايش مع الآخرين، وكان رحمه الله يعيش في شقة متواضعة جدًا بمدينة روي، يمارس فيها فريضة القراءة والتأمل وكأنه راهب اعتزل الخلق واعتكف في صومعته يتأمل في الكون بتفاصيله البديعة وإتقان صنعته، وهذا التأمل لم يكن وليد السنوات الأخيرة فقط كما يتصور البعض، بل كان منذ سنوات طفولته الأولى حيث نشأ في ظل وجود مكتبة والده- رحمه الله- المليئة بالكتب الكثيرة والتي تضمنت بطبيعة الحال كتباً دينية من مختلف المذاهب الإسلامية.
وقد قال الكاتب الراحل في إحدى لقاءاته مع الكاتب بدر العبري الذي أجرى معه بعض الحوارات المرئية والمكتوبة، إنه منذ الطفولة كان يقرأ الكثير من الكتب ويتأمل في محتواها ويتساءل عن صحة ما قيل فيها، مضيفًا “طرأ في ذهني سؤال وأنا صغير في السن ولم أتجاوز الثانية عشرة حينها مثل: أين توجد المعرفة الحقيقية؟ وظل هذا التساؤل يصاحبني حتى حُسم، ولما حسم كان لصالح العلم”.
هذا الصراع الفكري في داخل صادق جواد منذ طفولته نتج عنه الإيمان بأنَّ أي بلورة فكرية تنشأ لها جانبان، ولا يمكن أن تنفرد بجانب واحد، ومن هذه الفكرة تولدت علاقة المفكر الراحل مع الأدبيات الدينية ومع المعرفة العلمية.
الحديث عن فكر صادق جواد سليمان طويل ومتشعب، ويحتاج إلى مقالات طويلة، بل كتب متخصصة، فهذا الرجل الذي رحل من عالمنا لم يكن رجلاً عاديًا، وإنما رجلا عاش مع الفكر والمعرفة، مع الله والإنسان.