Image Not Found

قصة الكون في علوم الطبيعة (3): عندما أضاء الكون

أ.د. حيدر أحمد اللواتي – الرؤية
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

أوضحت البيانات التي توصل إليها العلماء من خلال رصد أقدم صورة أثرية لهذا الكون تعرف بـ”إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ”، أن كثافة غازيْ الهيدروجين والهيليوم الذين تكونا بعد مدة من “الانفجار العظيم” في بعض أجزاء الكون أكثر منه في أجزاء أخرى، ونتيجة لارتفاع الكثافة في تلك الأجزاء، فإن قوة الجاذبية بين جزيئات الغاز كانت أشد وأدى ذلك إلى ازدياد الكثافة أكثر فأكثر.

فبينما كان الكون يتوسع كانت قوى الجاذبية تعمل على زيادة كثافة الغازات وتجميعها، وكلما اقتربت ذرات الغازات من بعضها ازدادت قوة الجاذبية بينها ونتج عن ذلك ضغط شديد وارتفاع كبير لدرجات الحرارة في تلك الأجزاء تمامًا كما يحدث في إطار السيارات؛ إذ ترتفع درجات الحرارة كلما ازداد الضغط، ونتج عن ذلك تلاحم ذرات الغازات واندماج أنويتها منتجة حرارة عالية وانفجارات ضخمة ولدت قوى دافعة تعمل بعكس اتجاه الجاذبية، وهذا التوازن بين القوى الجاذبة وبين القوى الدافعة هي التي شكلت النجوم التي نشاهدها ليلا، فالنجوم ما هي إلا تجمع كثيف جدا للغازات نتيجة قوى الجاذبية ينتج عنه انفجارات ضخمة نتيجة الاندماجات النووية.

وهكذا بدأت ملايين النجوم في التَّكوُن، وغدا الكونُ مضيئًا بعدما ساده الظلام، فلقد أضاءت النجوم الكون بنورها المتلألئ.

كان للاندماجات النووية في مركز هذه النجوم أهمية بالغة، فبسبب هذه الاندماجات ولدت العناصر الأولى المكونة للكائنات الحية فنتج عنها عناصر الكربون والأوكسجين والنيتروجين والفسفور والكبريت وغيرها، ونتيجة لاندماج أنوية هذه العناصر تشكلت عناصر أكثر تعقيدًا فتجمعت أنوية الكربون والأوكسجين معًا لتشكل المغنيسيوم وبدأ علم الكيمياء يتشكل بصورة أجمل وأبهى فلقد زادت العناصر الكيميائية ووصلت إلى ما يقارب 26 عنصراً، وعنصر الحديد أكثرها تعقيدا، وتتوقف الاندماجات النووية عند إنتاج الحديد، ولذا فعندما يتم إنتاج الحديد بكثرة في النجم فإنَّ طاقة الدفع التي توازي طاقة الجذب الناتجة عن الجاذبية تقل بشكل كبير وتنتهي بانتهاء الاندماجات النووية مما يُؤدي إلى انهيار النجم مفجراً كتلته في الفضاء على شكل غبار فضائي.

وقد يتساءل البعض عن مصدر كل هذه المعلومات، فمن رصدها؟ وكيف تم رصدها؟ وهل كان هناك كائن حي أبلغنا بما حدث؟

الجواب أن في هذا الكون أدوات يمكننا من خلالها معرفة تاريخ هذا الكون ومن أهم هذه الأدوات الضوء؛ فالضوء يحمل أسرار الكون وتاريخه في قيعان وقمم موجاته ولقد استطاع الإنسان أن يفك رموز الأنوار الصادرة من النجوم المتلألئة ويقرأ شفرتها، ومنحنا ذلك كما هائلاً من المعلومات والبيانات وتعرفنا من خلالها على العناصر التي تكونت منها هذه النجوم وعلى أعمارها وتاريخها.

ومن خلال ما قمنا به من بحث ورصد تبين لنا بأن أقدم المجرات يقدر عمرها بحوالي 12.5 مليار سنة أي أنها تكونت بعد الانفجار العظيم بحوالي 1.5 مليار سنة. وعلمنا أيضا أن لهذه النجوم التي تكونت لها دورة حياة تمتد لملايين السنين وبعضها يعمر لبلايين السنين وعندما تموت تلك النجوم ينتج من موتها مخلفات في الفضاء تعرف بالغبار الفضائي وهو عبارة عن رماد النجوم التي انفجرت، وقد تم رصد هذا الغبار في عدد من المجرات.

وهذا الغبار الكوني هو أداة ثانية شبيه بالضوء يحوي على بيانات ومعلومات ثمينة وقد استطاع الإنسان أن يقوم بتحليله وفك طلاسمه وتبين أنه يحوي على عناصر كالكربون والأوكسجين والنيتروجين والمغنيسيوم والكالسيوم وبعض العناصر الثقيلة كعنصر الحديد.

وبطريقة لم يكشف العلم تفاصيلها بعد اندمجت هذه العناصر لتنتج لنا بقية عناصر الجدول الدوري التي تزيد عن 100 عنصرٍ، فتم ملاحظة بعض التراكيز البسيطة لعناصر مثل الفضة والذهب والنحاس والزنك؛ بل وحتى بعض العناصر المشعة كاليورانيوم مثلا.

ووُجد أن في هذا الفضاء الكوني تفاعلت هذه العناصر الكيميائية منتجة عددًا من المركبات الكيميائية والتي تتكون من عدد من العناصر، كالماء الذي يتكون من عنصري الهيدرجين والأوكسجين، وغاز الأمونيا وثاني أوكسيد الكربون.

ومرة أخرى ومع مرور الزمن ازداد الغبار الكوني كثافة لكنه في هذه المرة كان أكثر تعقيداً لاحتوائه على عناصر عديدة ومركبات كيميائية مختلفة وأدى ذلك إلى تشكل سحب عملاقة منه ومن الغازات الموجودة وبدأت الجاذبية تلعب مرة أخرى دورا رئيسيًا في زيادة كثافة هذه السحب العملاقة لتنتج نجوما جديدة واستمرت دورات النجوم، فنجوم تنتهي وأخرى تتكون من غبار سابقتها، وبهذه الدورات تكونت بلايين النجوم مشكلة مجرات ملأت الكون.


المصادر:

علماء الفلك يرصدون مجرة عملاقة هي الأقدم إلى الآن في تاريخ الكون، مجلة العلوم الأمريكية 11 يونيو 2020
https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/features/astronomers-get-earliest-ever-glimpse-of-ancient-giant-galaxy/

The story of Collapsing Stars-Pankaj S. Joshi


لقد اكتشفنا أخيرًا أن الماضي السحيق كُتب ونُقش على جدران هذا الكون، وأن الكون تعلم الكتابة والنقش في أولى لحظات حياته، تلك اللحظات التي لم تسبقها لحظات.. في سلسلة من المقالات سنلقي الضوء على قصة نشأة الكون كما توصلنا إليها عبر علوم الطبيعة.