الإنسان والحضارة والوحي (14)
قلنا فيما مضى إن الحداثة تقبل بالوحي كوسيلة لتغيير العالم على شرط أن يكون هذا الوحي الذي يتحدث على لسان دين ما يجب أن لا يكون هذا الدين دينا تاريخيا. نكمل بحثنا و بالله الاستعانة.
الاتجاهات الثلاثة للدين الإسلامي ( الكلامي و الفلسفي والعرفاني) هي تصورات الإنسان عن العالم ، و الثقافة التي يحملها ، و منظومة الأفكار التي يتبناها ، و العلوم التي يؤمن بها . و العلم هو الذي حكم الرؤية الحداثية لتغيير العالم لا الدين التاريخي لأنه يعتبرالدين التاريخي مزق الجنس البشري.
فهو يقصد بالدين التاريخي هو ذاك الدين الذي يفتقر إلى الحس التاريخي لدراسة موروثه الديني والذي لا تتردد من انتزاع مواطن قصوره و ثغراته وعجزه عن الوفاء بمتطلبات الإنسان سواء العقلية أو الروحية أو القلبية فضلا عن محاولة التعرف على آفاق المستقبل.
و هذا الذي يدعوه إلى أن يدير ناظريه في الاتجاه المعاكس ويتساءل بينه و بين نفسه عما سيكون عليه مصير هذه الثقافات والتي سرعان ما يكتشف أن هناك عوامل تنتقص من قيمة هذه الثقافات.
وفي طليعة هذه العوامل قلة عدد الأشخاص الذين تتوفر فيهم الرؤية الشمولية للنشاط الإنساني في شتى مجالاته ، فمعظم الناس وجدوا أنفسهم مكرهين على الاكتفاء بواحد من تلك المجالات ، في هذه الحالة هل تستطيع إصدار حُكم على حضارة موصوفة على حتمية الإكراه ، وهذا الإكراه ليس من نفس الحضارة بل هو تنظيم قاصر لهذه الحضارة.
لنوضح أكثر ، اسأل أي عضو في المجالس النيابية في العالم الإسلامي أو خطيب منبر هذا السؤال : مفهوم الشورى في العالم الإسلامي ماذا يقابلها من المفاهيم الغربية ؟ الجواب الديموقراطية فالشورى = الديموقراطية.
الآن تعال معي لننظر هل يمكن إسقاط مفهوم الشورى على مفهوم الديموقراطية أم لا ؟ الشورى السيادة للشريعة الإسلامية وإن خالفها الأغلبية ، بينما الديموقراطية السيادة للشعب و ليس للشريعة ، سؤال هل المفهومان متفقان لغة واصطلاحا أم لا غير متفقين ؟
الجواب ليس متفقين إذن ، لماذا تم إسقاط مفهوم الشورى على مفهوم الديموقراطية ؟ الجواب: لأنهم كانوا يريدون أن تكون صبغة توجيهية إلى الداخل بمعنى عدم الالتفات للمفاهيم الغربية بعبارة أخرى الابتعاد عن الحداثة الغربية.
فهل أنشأتَ أجيالا تحب الآخر أم لا ؟ مؤكد لا ، ولكن إذا أنشأت أجيالا على الحب واحترام فكرالآخر، وجعلت الأجيال تشعر بمحاسن ثقافة الآخرين ، فإن علاقتها بالطرف الآخر ستكون مختلفة و هذا ما يسمى (بالأخلاق).
وهذا هو الاتجاه الذي يريده الفكر الحداثي أن يكون لسان الوحي عليه (الدين الاخلاقي) أن يحمل الفرد أيا كان هذا الفرد مسلما مسيحيا بوذيا يهوديا هندوسيا مبادئ الدين الأخلاقي.
(ايمانويل كانط) قدم في كتابه (تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق) دعوة إلى هذا الدين ، إلى هذا الوحي سماه (الدين الأخلاقي العقلي) باعتبار أنه دين نقي ، دين داخلي ، يخلو من الطقوس و المعجرات و التعصب و الصراعات ، و يقوم في جوهره على استعداد القلب ليحقق للإنسان كل واجباته الإنسانية بوصفها أوامر إلهية فنتعبد بالدين الأخلاقي أو نفعل فعلا تقيا هو أن نفعل الخير بإرادة حرة احتراما للقانون الأخلاقي بذاته.
جاء في (نفس المصدر ص 13) (افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك باعتبارهما دائما وفي الوقت نفسه غاية في ذاته و لا تعاملها ابدا كما لوكانت مجرد وسيلة) .
واقعيا هذه النصوص تنسجم مع ما جاء على لسان خاتم النبيين (ص) حين قال ( حب لغيرك ما تحب لنفسك) فإذا ترجمت هذه النصوص للغرب سيتبعون هذا النبي أم لا ؟ مؤكد سيتبعونه لأنه جوهر لسان الوحي ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) وهذا ما يريده الفكر الحداثي.
أنتم أغلبكم قرأ مقولة المسيحي انطوان بارا في حفيد خاتم النبيين (ص) الحسين بن علي ( لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرض راية و لأقمنا له في كل واد منبرا و لدعونا الناس إلى المسيحية بإسم الحسين).
من هنا يتضح لنا أننا إذا انتقلنا خطوة من الميتافيزيقيا التقليدية إلى التجربة التي يشيدها التصورالإنساني لطبيعته من حيث هو كائن عاقل فان الحضارة الإسلامية ستثبت و تمتد إلى أمد بعيد.
نكمل بحثنا في الحلقة (22) إن شاء الله تعالى…. إلى اللقاء
الهوية والمعرفة والمجتمع (1)
تخيل أنك جالس في البيت و حولك أبناؤك و أهلك و إذا بأحد أعضاء الأسرة يسألك هذا السؤال : ما هي هويتك ؟ بماذا ستجيبه ؟ الجواب : هويتي مسلم ، سيقول لك فقط ، ستقول لا مسلم شيعي أو مسلم سني ، سيقول لك فقط ،
ستقول لا مسلم سني شافعي أو مسلم شيعي اثنا عشري ، سيقول لك فقط ، ستقول لا مسلم سني شافعي و لكن أقلد الشيخ الفلاني أو مسلم شيعي اثنا عشري ولكن أقلد المرجع الفلاني ، سيقول لك فقط ،
ستقول لا مسلم سني شافعي و أقلد الشيخ الفلاني ولكني ذو نزعة ليبرالية و إسلامية معا أو مسلم شيعي اثنا عشري و أقلد المرجع الفلاني و لكني ذو نزعة علمانية و إسلامية معا.
سؤال : كم هوية تحمل أنت ، هل واحدة أم متعددة ؟ الجواب : متعددة ، هل هذه الهويات التي تحملها تنسجم كل واحدة منها مع الأخرى أم لا تنسجم ؟ الجواب لا تنسجم .
الآن تصور أنك تدخل أي دار من دور العبادة و تجد شخصا يعتلي المنبر و هو يحمل هويات متعددة و يلقي موعظة في الناس أو مدرسا في الصف يلقن الطلاب دروسا تعليمية و يحمل هويات متعددة .
سؤال :المعلم عندما يدخل قاعة الدرس بماذا يتكلم ؟ يتكلم باللغة ، و الخطيب عندما يصعد المنبر بماذا يتحدث ؟ يتحدث أيضا باللغة ، هذه اللغة التي يتحدثون بها هل هي لغة ثابتة أم متغيرة ؟
يجيب عنها (الدكتورعلي عبدالواحد الوافي) في كتابه (اللغة والمجتمع ص 145) قائلا ( إن اللغات و ما يتفرع عنها من اللهجات كانت و مازالت في تطور مستمر و أن هذا التطور قانون ثابت يجري مجراه و يأخذ حكمه حتما كلما توفرت دواعيه و عوامله).
إذن اللغة في حالة تغير مستمر و ليست ثابته ، و اللغة هي الأداة التي يستخدمها الإنسان لتعكس ميوله العقلية و تفكيره المنطقي ، فهي من جهة رمز للفكر و من جهة أخرى فهي نمط من أنماط التعبير و شكل من أشكال التصور الإنساني في تكوين رمزية الأشياء سواء كانت هذه الأشياء صورية أو لفظية أو دينية ،و هذه الأنماط لا تفاضل بينها بل تختلف ، لهذا لا نستطيع تصنيف المعلم و الخطيب أو غيره إلى خيالي أو غير خيالي .
سؤال : هل يمكن لرمزية اللغة أن تشكل الأساطير اللغوية أو لا يمكن؟
الجواب نعم ممكن لأن الكلمة و التعبيرات اللغوية التي يتم استخدامها تشكل تتطابقا بين الدال و المدلول و هو ما نجده في الاستعمالات اللغوية تارة باستعمال عناوين لا تمت إلى الموضوع بصلة ، و تارة التماهي بين الكلمة و ما تدل عليه.
فإذا طرحت موضوعا ما ، تجد أن من لا دراية له به يطرح قباله أسئلة بعناوين كبيرة بحيث إذا ما نظرنا إليها من الزاوية الذاتية يتضح لنا جليا أن منطلق الجواب ليس منطلقا موضوعيا بل هو منطلق شخصي و نفسي فيما يطرحه من اللغة الفكرية .
و هذا الفكر مرتبط باسمه لا ينفصل عنه فأصبح جزءا لا يتجزأ من الملكية الشخصية لحامله ، لهذا تجده يدافع عن هذه الملكية ولا يسمح لأحد غيره استخدامها من أجل حماية مهنته كمعلم أو كعالم دين أو كخطيب .
مثال : عندما يريد المعلم تدريس كتاب فيلسوف ما لطلابه هل يستطيع ذلك دون معرفة أصول الفلسفة أولا يستطيع؟ لا يستطيع ، و إذا أراد أحد تفسير القرآن الكريم هل يستطيع ذلك دون معرفة أصول قواعد اللغة و البلاغة ومبادئ تأويل النصوص أو لا يستطيع ؟ لا يستطيع ، لماذا ؟
لأن اللغة التي تستخدم في الفلسفة أو في القرآن الكريم تختلف عن اللغة التي تستخدم في العلوم الأخرى ، و بدون ذلك ستكون اللغة التي يتحدث بها هي لغته هو و المعاني التي يفسرها هي إسقاطاته هو و ليست المعنى اللغوي للفيلسوف في كتابه أو لغة القرآن الكريم .
من هنا تنتج لنا لغة الفكر الأسطوري (الدين البديل) وهو مرض يعتبره الحكماء مرض لغوي ، و هذا المرض انعكس على الأديان لتشكل المنبع الديني الأسطوري للناس ، مثال: قال تعالى في سورة الكهف آية 18 (و كلبهم باسط ذراعية بالوصيد) سؤال : ما هي اللغة التي تحدث بها القرآن الكريم ؟ الجواب اللغة العربية.
ما هو إعراب (و كلبهم)؟ يقول اللغويون (واو حال) و كلبهم (مبتدأ) و الفائدة البلاغية يقول الكسائي (أن الواقعة في حال التكلم عن الحدث) .من هنا نستنتج أن القرآن الكريم يتحدث عن واقعة و هي قصة أصحاب الكهف ، و هو ما ذهب إليه المفسرون المسلمون .
و لكن لم نجد أحدا نعت أصحاب الكهف أنهم كلاب عيسى المسيح لأنهم كانوا على دينه (ع) ، و لم نجد أحدا في التاريخ عاش في عصر نبي من أنبياء الله و نعت نفسه أنه كلب من كلاب هذا نبي أو ذاك لأنه على دينه ،
مثلا لم نجد أن مالك الأشتر القائد العسكري لجيش علي بن أبي طالب نعت نفسه أنه كلب علي بن ابي طالب ، و لم نجد أحد حواري الحسين بن علي عابس الشاكري نعت نفسه أنه كلب الحسين بن علي بل قال حب الحسين أجنني.
سؤال : هل النعت( الصفة) يدخل في تشكيل هوية الإنسان أو لا يدخل ؟
نكمل بحثنا في الحلقة (23) إن شاء الله تعالى…. إلى اللقاء .
الهوية و المعرفة و المجتمع (2)
توقفنا في الحلقة الماضية عند نقطة أن اللغة في حالة تغير مستمر و يمكن لرمزية اللغة أن تشكل أساطير لغوية يدافع عنها من لا دراية له في استعمال التعبيرات اللغوية أصلا ، نكمل بحثنا و بالله الاستعانة .
نحن عرفنا أن الإنسان يحمل هويات متعددة ، و هذه الهويات لها ارتباط بالبعد الاجتماعي و الثقافي، حمدي حسن عبدالحميد رئيس مجلس قسم الأصول التربية في جامعة الزقازيق في مصر يقول (إن منظمة اليونيسكو تبنت مفهوما خاصا للهوية) سألخصها لكم
(إننا أفراد ننتمي إلى جماعات لغوية محلية أو اقليمية أو وطنية بما لها من قيم أخلاقية و جمالية تميزها و بها نستطيع معرفة تاريخ الجماعة و تقاليدها و عاداتها و أسلوب حياتها و هذه الطريقة التي ننتمي بها إلى جماعتنا بصفة خاصة و إلى العالم بصفة عامة)
الإنسان بطبيعته الاجتماعية ينتمي إلى جماعات معينة لها لغة خاصة في التعاطي مع الأحداث و لها تقاليد خاصة في إظهار دورها الاجتماعي و الثقافي و لها عادات خاصة تمارسها من أجل استقطاب الآخرين إليها
وهذه الجماعات قد تكون على شكل منظومة قبلية ، و قد تكون على شكل فكر أيدلوجي ، و قد تكون على شكل نمط فكر مستورد ، و قد تكون على شكل ممن يحن إلى الماضي التقليدي ، المهم هناك إنسان ينتمي إلى هذه أو تلك الجماعة و هذا الانتماء هو جزء من هويته الشخصية ، و هذه الجزئية تولد حالة من التحدي في إثبات الذات ، و هذا التحدي يُحدِثُ تحولات فكرية قد يفقد فيها الإنسان هويته ، لنوضح أكثر
بالأمس طرحت هذا السؤال: هل النعت يدخل في تشكيل هوية الإنسان أم لا يدخل ؟ دعونا نجيب على هذا السؤال لتتضح لكم الصورة ، و سنبقى مع الآية 18 من سورة الكهف (و كلبهم باسط ذراعية بالوصيد)
أنت إذا دخلت إلى بلد ما وسمعت أحدا يقول أنا كلب الحسين بن علي ، هل يجوز ذلك بلاغيا أم لا يجوز ؟ الجواب لا يجوز أن ينسب شيئاً إلى شيءٍ غير حقيقي و ليس من جنسه
ولأجل أن يكون التعبير حقيقيا ، مثلا تريد أن تستعير صفة من صفات أي حيوان و تلصقها في شخص ما مجازا ، فالاستعارة هنا لا تأتي بالعلم الشخصي لعدم إمكانية دخول الشيء في الحقيقة الشخصية (جواهر البلاغة في المعاني والبيان – احمد الهاشمي-ص 307)
ولو قام أحد و مارس أفعال الكلب و نسبه إلى شخصية لها قدسية لا نظير لها كالحسين بن علي و هو حفيد خاتم النببين و سيد شباب أهل الجنة هل سيبقى لهذا الرمز قدسية حينئذ ؟ مؤكد لن تبقى.
و النتيجة هويتك أصبحت مشوهة ، و بالتالي الفكر سيكون مشوها ، و الروح ستكون مشوهة ، و النتائج ستكون مشوهة ، العبادات ستكون مشوهة ، الشعائر ستكون مشوهة ، الممارسات الاجتماعية ستكون مشوهة ، المظاهر التي تجتمع إلى جوار بعضها البعض ستكون مشوهة ، فإذا كانت هناك تشوهات فكرية و روحية هل تستيطع بناء حضارة و تشارك الآخرين تاريخ أمجادك ؟ الجواب لن تستطيع .
لأن الهوية هي جسر يعبر من خلاله الفرد إلى بيئته و مجتمعه ، يحس بالانتماء إليه ، فالقدرة على إثبات الهوية مرتبطة بالوضيعة التي تحتلها هذه الجماعة أو تلك في المنظومة الاجتماعية المتكاملة ، قد يقول قائل هذه الممارسات لا تعنينا ،
طالما سلمت الأمر أنك من نفس الكيان الثقافي و الفكري فإنها مرتبطة بك بشكل أو بآخر ، وقد أجمع العلماء على أنه لا وجود لفرد لا هوية له .
سؤال : هل تستطيع أن تدخل شعيرة مسيحية المنشأة تمارسها جماعة معينة في الدين المسيحي إلى كيانك الإسلامي أم لا تستطيع ؟
لا تستطيع لأنك لست من كيان تلك الجماعة المسيحية
و لكن إذا أدخلتها ماذا سيحدث ؟ الجواب ستنتقل مفاهيم الشعائر الروحية و الثقافية التي عند هذه الجماعة من المسيحيين إلى كيانك الإسلامي ، و هذا التلاؤم العام سيؤثر على جانبين الجانب الروحي و الجانب الأخلاقي ، سأقرب لكم المعني ، ركزوا معي
الصينين اخترعوا البارود ، و لكنهم لم يخترعوا المدفع لماذا ؟ الجواب : لأن ثقافة الصينين مرتبطة بالفكر الطاوي و هو تقليد ديني في العيش في وئام معه ، و يندمج الفرد مع هذه الإيقاعات دون تخطيط مع ما تريده طبيعة الحياة.
فتأثر الصينيون بهذه الثقافة تأثيرا كبيرا و هي ثقافة (اللاعمل) احتراما لهذا التقليد الديني ، و انعكس هذا المبدأ على الهندوس (العمل الغير الهادف) و هو مذهب جماعة بهاغاوت غيتا في الهند ، و تجلى هذا المفهوم إسلاميا على شكل التوكل و الرضا في ممارسة شعيرة ما عند جماعة معينة من المسلمين والسبب لأنه اسم أحد رموز المسلمين المقدسة متداخل فيها ، والنتيجة المحصلة تحول مخزون القوة إلى بضائع استهلاكية .
الآن تصور هذا المفهوم (العمل الغير الهادف) بدأ في الصين و انعكس في الهند و تجلى في البلدان الاسلامية .
نكمل بحثنا في الحلقة (24) إن شاء الله تعالى…. إلى اللقاء.