ظلت قصة الكون مرتعًا خصبًا لخيال الإنسان، يزرع فيها أمنياته وتخيلاته، ومع مرور الوقت تحولت تلك الأمنيات والأحلام إلى قصص تتناقلها الأجيال وتضيف عليها من أمنياتها ما تشاء، وهكذا بدأت القصة تنتقل من جيل إلى آخر حتى تكونت قصص متكاملة ومثيرة تحكي لنا تاريخ هذا الكون.
ولأن أحلام وأمنيات البشر مختلفة، فقد تعددت القصص بعدد الأمنيات والأحلام، وأصبحت لكل مجتمع قصته التي كتب بها تاريخًا خاصًا به، بتفاصيل شكلت كيفما شاء وتمنى، فكانت أغلب تلك القصص- إلا ما ندر- قائمة على خيالات أبدعها الفكر البشري وأسقطها على الكون، فالإنسان بطبعه يكره المجهول فإن عجز عن سد فضوله بالعلم لجأ إلى أساطير سطرها بخياله.
ومع تراكم خبرات الإنسان ونمو معرفته وإصراره على بلوغ هدفه أدركه اللطف الإلهي ووجهه إلى حقيقة غفل عنها طيلة تاريخه منذ أن وجد على ظهر هذه البسيطة. هذه الحقيقة تشير إلى أن الكون قد نقش قصته في أرجائه ونحتها نحتًا، وعليه أن يرصدها ويتمعن فيها، وبذل الإنسان جهده وصب عرقه وهو يبحث عن تلك النقوش ويحاول رصدها في كون لا يعلم له حدودا ولا نهاية.
ومرة أخرى فتحت له أبواب اللطف الإلهي وكان له ما أراد؛ إذ تبين له أن سر هذه النقوش قد سطر بلغة رياضية دقيقة، فهو إن تمكن منها فتحت له المعارف والآفاق، وكشفت له تفاصيل ما خطرت على قلب إنس ولا جان، ولكن تبين له أيضا أن أغلب تلك القصص التي خطها عبر تاريخه ما هي إلا أمنيات كتبها من بنات أفكاره، وإن قصة هذا الكون وتر لا شفع لها.
ولنتأمل وندرك الفوارق بين ما سطره الإنسان من خياله وبنات أفكاره وبين القصة التي سطرها العلم لهذا الكون، فتعالوا معي نستعرض في هذه العجالة قصتين حول نشأة الكون ثم نعرج إلى قصة الكون كما تذكرها علوم الطبيعة.
وسنبدأ بالحضارة المصرية القديمة تلك الحضارة التي ما زالت آثارها قائمة تحكي لنا مظاهر قوتها وجبروتها، هذه الحضارة كانت تدعي أن قصة الكون تبدأ بمياه أزلية، تطفو على سطحها بيضة ذهبية ضخمة، وعندما انفجرت تلك البيضة خرج منها إله يدعى “أتوم” وهو أول آلهتها، وذات يوم عطس هذا الإله عطسة قوية فكان من قوتها أن خلق إلهًا آخر يدعى “تشو” وهو إله الهواء، وفي يوم آخر بصق الإله أتوم فظهرت إله الندى “تفنوت” وتزوجها الإله “تشو” لتنجب له “نوت” رب السماء، و”جب” رب الأرض، وفصل الأب “الإله تشو” بينهما فرفع “نوت” عالياً لتصبح السماء، بينما يبقي “جب” في الأسفل ليكون الأرض، وهكذا تكونت السماء والأرض.
أما في الحضارة الفارسية فقصة الكون تبدأ بصراع بين النور والظلام، بين قوتين عظيمتين يترأسهما “أهورامزدا” قائد قوة النور، و”أهريمن” قائد قوة الظلام. وعندما أراد قائد الظلام “أهيرمن” الاستفراد بالسلطة وانتزاعها من “أهورامزدا” (وكان “أهورامزدا” حاكمًا على عالم الأرواح)، رفض “أهورامزدا” ذلك، فأمهله “أهيرمن” مدة من الزمن لكي يتخلى عن سلطته بصورة سلمية ودون حروب، لكن أهورامزدا رفض تخليه عن السلطة، واستغل المهلة الممنوحة له فخلق الكون على مراحل ست؛ إذ قام بخلق السماء أولاً، ثم الماء، وبعدها خلق الأرض، فالنباتات، فالحيوانات، وأخيرًا خلق الإنسان بينما كان “أهيرمن” منشغلا بخلق الشياطين لمواجهة “أهورامزدا”.
أما في علوم الطبيعة فتبدأ قصة الكون بذرة كونية، هذه الذرة الكونية لا يُمكن تصور حجمها؛ فهي ذرة متناهية في الصغر لا تستطيع أن تلحظها حتى بأفضل ما توصلت إليه البشرية من مجاهر ومكبرات، مع صغر حجمها فلقد كانت تحوي في أحشائها السماوات بعظمتها والأرض بسعتها وما بينهما من فضاء ممتد لا يعلمه إلا الله.
لقد كان الكون وما يحويه من مادة وما يتضمنه من قوى كلها محشورة في تلك الذرة الكونية.
لكن.. من أين أتت هذه الذرة؟ وهل وُجد شيء قبلها؟
وقف العلم عند هذه الذرة ولم يتخطاها؛ إذ ليس لها تاريخ، فلا وقت يسبقها، ولا زمن قبلها، فقد ولد الزمن من رحمها، واعترافًا منه بذلك أسماها بنقطة التفرد.
وقبل ما يُقارب من 13.8 مليار سنة، جاء الأمر الإلهي “كُنْ” فكان الكون، وحدث انفجار عظيم مذهل لا يُمكن لأحد أن يتصور ضخامته، إذ لا مثيل له ولا شبيه، فما يحدث في مركز الشمس من انفجارات عظيمة نتيجة الاندماجات النووية، يولد حرارة رهيبة لا تطاق تبلغ 15 مليون درجةٍ مئويةٍ، لكن درجة حرارة انفجار ذرتنا الكونية العظيم يفوق انفجارات الشمس بأضعاف مضاعفة، إذ يقدر بتريليونات الدرجات المئوية.
وضخامة الانفجار والطاقة التي نتجت عنه ودرجات الحرارة التي صاحبت هذا الانفجار بلغت مدى لا يمكن لعلمنا أن يصل إليها؛ فهي أرقام فلكية انهارت عندها جميع قوانينا الفيزيائية وتحول علمنا إلى جهل مطبق، فلا نعلم ما حدث وكيف حدث. ويُقر العلم بأنه ليس بإمكانه الكشف عن أي شيء في تلك اللحظة الزمنية على الرغم من قصرها؛ بل وبناءً على النظريات العلمية الحالية، لا يمكن لنا الكشف عن تلك الفترة مهما حدث من تطور تكنولوجي، وستظل تلك الفترة الزمنية مجهولة لدينا، فكأن الكون صُمم بشكل لا يسمح لنا بالكشف عن تلك اللحظة التاريخية.
لكن قصة العلم اقتربت من لحظات الخلق الأولى اقترابًا لم نكن لنحلم به.. ترى كم اقتربت؟ وهل توصلنا إلى ما حدث في الدقيقة الأولى من الخلق؟ أم الثانية الأولى؟ وما الذي حدث حينها؟ وكيف حدث؟
للحديث بقية…
لقد اكتشفنا أخيرًا أن الماضي السحيق كُتب ونقش على جدران هذا الكون، وأن الكون تعلم الكتابة والنقش في أولى لحظات حياته، تلك اللحظات التي لم تسبقها لحظات… في سلسلة من المقالات نلقي الضوء على قصة نشأة الكون كما توصلنا إليها عبر علوم الطبيعة.
المصادر:
أساطير الأوّلين: كيف افترضت الحضارات القديمة نشأة الكون وبدء الخلق؟!
https://www.arageek.com/2015/10/01/ancient-legends-stories-creation-and-life.html
Where the Universe Came From, New Scientist, 2017