من أشد حجج المشككين في قيمة لقاحات كوفيد-19 تلك التي تشير إلى أن هذه اللقاحات لا تضمن لنا عدم الإصابة بالمرض، فنتائجها ليست مضمونة؛ بل نجد بعض المشككين في وسائل التواصل الاجتماعي يتحدون الآخرين بتقديم أدلة تضمن لهم عدم الإصابة بالمرض.
ومن هنا نجد أن توضيح قيمة البحث العلمي وكيفية التحقق من نتائج البحوث العلمية، قد تكون مفيدة وتوضح بعض المغالطات التي نتج عنها هذا التشكيك. بداية لابُد من التوضيح أن النتائج المترتبة على التجارب العلمية لا تصل إلى اليقين المطلق، فذلك أمر لا سبيل إليه، وذلك نتيجة لطبيعة المنهج العلمي القائم على الاستقراء والتجربة البشرية. لكن ذلك لا يعني عدم الأخذ بنتائج هذه التجارب؛ فالعقل البشري يكفيه الاطمئنان لكي ينطلق ويعمل لما اطمأن له، أما أن ننتظر حتى نصل إلى اليقين قبل أن نبدأ بالتحرك فلن يحركنا قيد أنملة فالوصول إلى اليقين المطلق عبر التجربة البشرية أقرب إلى السراب.
ولذا فإنَّ المنهج العلمي وضع نصب عينيه هذه الحقيقة وهو يقدم للبشرية حلولا للتحديات التي تواجهها، فقد حاول العلماء أن يعززوا من قيمة التجارب ومصداقيتها من خلال أمور عدة ذات أهمية بالغة منها التوثيق الدقيق للنتائج التي توصلت إليها الأبحاث العلمية، وتوفير نتائج البحوث العلمية للجميع وذلك عبر النشر العلمي وأخيرا استطاع المجتمع العلمي أن يحد من سلطة الأفراد والمؤسسات في التحكم في مسار البحوث العلمية وهذا وإن لم يصل إلى المستوى المأمول إلا إننا نستطيع أن ندعي بأن ما توصل إليه البحث العلمي من أدوات تقلل من خضوعه لسلطة الأفراد والمؤسسات بنسبة كبيرة جدًا ربما هي الأعلى في تاريخ البشرية.
واستطاع المجتمع العلمي أن يقوم بهذه الأمور من خلال آليات معينة فالبحوث العلمية يتم نشرها عادة في مجلات علمية محكمة وتكون هذه المجلات العلمية في غالب الأمر تابعة لجمعيات علمية متعددة لها استقلال مالي ونظام إداري قائم على انتخابات الأعضاء المنتمين إلى الجمعية العلمية من كل أطراف العالم، وتقوم هذه المجلات بإجراء تقييم دقيق وشامل للبحث المقدم وذلك من خلال إرساله إلى عدد من المتخصصين في مختلف دول العالم في موضوع البحث ومن ثم يتم إرسال التقييم لمحرر المجلة العلمية حيث يتم توضيح نقاط الضعف في البحث ومن ثم تتم إعادة الورقة العلمية إلى الباحث ليقوم بالرد على التقرير وإعادة بعض الجوانب العملية إذا تطلب الأمر، وترتفع قيمة البحث العلمي كلما كان للمجلة مصداقية عالية، ويتم تحديد المصداقية بصورة رياضية دقيقة تعرف بعامل التأثير، وهو عامل يرتبط بعدد الاستشهادات على مقالات علمية نشرت في المجلة.
وبعد النشر يصبح البحث العلمي متوفرًا للجميع ويقوم المتخصصون الآخرون بمراجعة البحث وتقييمه، كما يتم إعادة البحث بطرق مختلفة أو القيام ببحث مشابه ولكن على عينات مختلفة ولربما في دول مختلفة وتتم المقارنة في النتائج التي تم التوصل إليها، وهكذا نجد أن المجتمع العلمي بأجمعه قد ساهم في التوصل إلى نتائج البحث العلمي وتستمر عملية التقييم وخاصة إذا كان البحث له أهمية كبيرة كتلك المرتبطة بهذا الوباء، ومع مرور الوقت يزداد عدد الأبحاث العلمية المرتبطة بموضوع البحث، فإذا كانت النتائج التي تم نشرها موافقة لما تم نشره سابقاً وداعمة لنتائجها ازدادت القناعة بصحة تلك النتائج وإذا اختلفت النتائج تقل قيمتها وتستمر الأبحاث فيها.
وبهذه الوسائل حاول المجتمع العلمي أن يقلل من هامش الخطأ في بحوثه العلمية، كما أننا نلاحظ أنه وبهذه الوسائل المستخدمة فإن البحوث العلمية لا تخضع لسلطة أفراد يتحكمون فيه، فمحررو المجلات العلمية يدركون تمامًا أنهم إن قاموا ورفضوا بحثاً علميًا ذا جودة عالية نتيجة لبعض التحيزات المعرفية فإنَّ مجلات أخرى ستقوم بذلك وستنال قصب السبق بدلا عنها، وبهذا حاول البحث العلمي التخلص من سلطة عُليا تتحكم بمساره.
كما أن الباحث الذي يقوم بالبحث العلمي ليس هو من يقرر قيمة البحث فهو جزء من منظومة علمية عالمية، إذ يحق له نشر بحثه ولكن بعد النشر يخضع لتقييم مواز من الأقران وهم من يرفعون من قيمة البحث أو يثبتون خطأ ما توصل إليه.
إن التاريخ العلمي يشير إلى أن أحد أبرز التحديات التي واجهها التطور العلمي كانت تتمثل دوماً بوجود سلطة عليا لأفراد أو مؤسسات معينة تهيمن على البحث العلمي وتوجهه بل وترفض أن تخرج من مساره الذي رسمته له وهذه هي أحد أهم التهم التي يثيرها عدد من المشككين وهي دعوى صحيحة إن تم النظر لها بالمطلق، ولكن الصحيح أن ينظر لها من خلال مقارنتها بالتاريخ البشري وهي في حال المقارنة فإنها بالحد الأدنى، فلم نعهد في تاريخ البشرية حرية في نشر البحوث العلمية المختلفة كالتي نشهدها في عصرنا الحالي، فالباب يكاد يكون مفتوحًا للجميع.
إننا إذا كنَّا نرغب بحق في أن نساهم في البحث العلمي، فالطريق متاح أمامنا؛ إذ يمكننا أن نقوم بإنشاء هيئة علمية تقوم بمتابعة وتقييم للبحوث العلمية المنشورة وتقرر بناءً على ما توصلت إليه من نتائج فهذا النوع من الهيئات العلمية لا يحتاج إلى بنى تحتية ضخمة ولا إلى معامل بحثية كبيرة ولكنه يحتاج إلى إعداد جيل واع من العلماء والمتخصصين.
وهذا ما قامت به عدد من البلدان إذ نجحت في إنشاء منظمات علمية تضم خبراء في تخصصات مختلفة وأوكلت لها مهمة تقييم الأبحاث المنشورة بل وأصبحت هذه المنظمات العلمية ذات قوة فأصبحت تطالب ببيانات تفصيلية حول الأبحاث التي تمت وذلك من أجل اتخاذ القرار المناسب والقائم على الأدلة العلمية المتاحة.
وبهذه الوسائل التي طورها المجتمع العلمي تم تطوير اللقاحات لكوفيد-19 وتم التحقق من مأمونيتها فهي كغيرها من الأمور العلمية تحظى بتقييم دقيق عبر الآليات التي أشرنا إلى أهمها.