تمر عُمان بمنعطف دقيق جراء ما يحدث من مظاهرات ومسيرات ووقفات مطلبية تمس معيشة المواطن ولقمته وعيشه الكريم، ورغم قناعتي التامة بهذا الشعب -متظاهرون وأجهزة أمنية- وحبه للوطن، وسلميته وطيب عنصره، إلا أنَّ الخوف من ردود أفعال عفوية قد تجر إلى ما لا يُحمد عقباه، وقد تخون الحكمة أحدهم، فيؤدي تصرف فردي من أيِّ أحد إلى شرارة تجعل الالتقاء للحوار ضرباً من المستحيل.
لابُد أن نعي جميعاً ما هي المشكلة، وأين الأخطاء والسلبيات، حتى نصل إلى الحلول الصحيحة؛ لتجنيب البلد ما يُمكن أن يؤذيه، ويُؤذي القاطنين على أرضه الطيبة.
حضرة صاحب الجلالة السُّلطان المُعظَّم- أيده الله- تسلم تركة اقتصادية صعبة مع تولي جلالته مقاليد الحكم، وما أكمل شهرين إلا وبدأت أزمة فيروس كورونا لتزداد الأمور صعوبة، ولا ننسى أيضًا ما تسبب فيه انخفاض أسعار النفط باقتصاديات دول الخليج كلها. بدأ جلالته بتغيير كبير في الحكومة، فغيّر أكثر من 80% من الوزراء ومجالس إدارات الشركات الحكومية. وخلال الفترة الماضية تمَّ سنّ عدد من القوانين والقرارات جاءت تباعًا مثل: تقليل دعم الكهرباء والماء بالتدريج ليتم بعد فترة رفعه تمامًا، وفرض ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5%، وتخفيض الحد الأدنى لراتب العُماني في القطاع الخاص إلى 320 ريالًا بعد أن كان الحد الأدنى حسب الشهادة، وسن قانون جديد للإسكان مُلخصه أن استحقاق الأرض سابقًا كان لكل عُماني وعُمانية، ليصبح أرضًا واحدة للزوجين معاً، وإذا لم يتزوج فلابد من إكمال 40 سنة ليستحق الأرض، وإذا أخذ أحدهما قبل الزواج أرضاً يسقط حق الآخر في الأرض إذا تزوجا. أيضاً شهدت الفترة الماضية إغلاقات تجارية عدة بسبب كورونا، والإحالة للتقاعد لكل من أكمل 30 سنة خدمة، استثناءً لهذه السنة- حتى لو لم يصل لسن التقاعد لمن يتبع الجهاز الإداري للدولة وللشركات الحكومية. والآن هناك حديث عن قانون عمل جديد أُثير حوله الكثير من اللغط.
وبالتالي وكنتيجة طبيعية لكل هذا فإنَّ الأوضاع المعيشية ازدادت صعوبة، وزادت أعداد الباحثين عن العمل، وعمقتها أزمة كورونا بتسريح أعداد كبيرة من العاملين في القطاع الخاص، كما إن الذين أُحيلوا إلى التقاعد بدون أن يخططوا له كانوا بالآلاف وعليهم قروض وأقساط بنكية، وتجلى ثقل الضرائب في الشهر الأول من تطبيقها (أبريل).
في المقابل الوافدون لا زالت أعدادهم مرتفعة، وهو أمر صعب تقبله في ظل بطالة عُمانية واضحة، كما إن لوبيات العمالة الآسيوية تعمل بلا كلل وملل في إبراز العُماني وكأنَّه لا يصلح للعمل، وليس هناك أفقا واضحا لتعيين الباحثين عن العمل، ولم نجد حتى اللحظة خطة زمنية مُمنهجة لتعيين هؤلاء، خصوصا أنَّ أرقامهم في ازدياد سنوياً من مخرجات التعليم العام والتعليم العالي فضلاً عن المتسربين. أيضًا أعداد العُمانيين الذين يبيعون المنتجات في الشوارع أصبحت في ازدياد، وأصبح منظر امرأة كبيرة تبيع سمنًا أو ثريدًا، ومنظر طفلة صغيرة تبيع حلويات بسيطة في وسط الشارع في حر الصيف، منظرا مألوفا وعاديا. ومظاهر الفقر وتنوع حالاته- والتي نادرا ما كنَّا نشاهدها- أيضًا باتت واضحة.
وبدلاً من معالجة هذه الظواهر بسرعة وبشيء من الحكمة واللين والتعقل، وجدنا أن بعض الوزراء والوكلاء أخطأوا كثيرًا: فكانت القرارات تتوالى، وتصدر بلغة جافة، افتقدت للغة الأبوية، وافتقدت للحميمية، ولم يكن فيها شيء من الذكاء العاطفي، ولا إشعار المواطن أنه- وهُم- في نفس القارب، ولم يأتِ أحد ليخاطب المواطن بأن هناك قرارات قد تستدعي ربط الحزام لفترة، وتتطلب تضحيات من كل الشعب، كل هذه اللغة لم تظهر للناس، فظهرت القرارات وكأنَّ المطلوب من الفقير أن يضحي وحده.
لم تتوفق الجهات المعنية في “الإخراج” الصحيح لهذه القرارات تمامًا، وكان هذا فشلًا ذريعًا؛ حيث افتقد المتحدثون من الوزراء والوكلاء لأبسط أساليب الخطاب والحوار من لغة الجسد ولغة العيون ونبرات الصوت، ولم يوفقوا تمامًا في جذب التعاطف من المواطن نتيجة لذلك، ولم يستطيعوا أن يظهروا بشخصية القادة، بالعكس كانت أحاديثهم مُرتبكة، وكانت هناك نبرة دفاعية واضحة؛ بل إنَّ عدم المبالاة والتطنيش أيضًا تم ممارسته، ويمكن القول إنهم كانوا تائهين، والتصريحات العاجلة المستفزة كانت مؤشرًا غير جيِّد للناس، مما أعطى الشعور للمواطن بأن الحكومة غير متعاطفة معه إطلاقا.
مما يؤسف قوله أيضًا أن عددا من المسؤولين ظلوا خلال الفترة الماضية يوجهون اللوم للمواطن في زيادة الإصابات بكورونا، وتهديده الدائم بالغرامات.
أخطأت بعض الوزارات تماماً في توقيت إصدار بعض القرارات، فإذا فرضنا أن الضرائب مستعجلة للإنقاذ، ألم يكن لقانون الإسكان أن ينتظر سنة أو أكثر، خصوصًا وأنه لن يُغير شيئًا في موازنة الدولة حاليًا، وقانون العمل -لم يصدر بعد ولكن تسريباته وحديث الوكلاء عن بعض بنوده- كان يُمكن أن يتأجل أيضًا، خصوصًا وأن الاحتقان كان واضحًا عند المواطنين في وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
كان من المناسب أن تُعرض القوانين الجديدة قبل اعتمادها على مجلس عُمان، وأن تأخذ وقتها من النقاش لمعالجة السلبيات التي قد تظهر فيها.
لم يتم فتح أي ملف من ملفات الفساد، فهذا الملف أن تم فتحه سيمتص كثيرًا من هذا الغضب وهذا الاحتقان، وأن كان بعض هذه الملفات فُتِحتَ سرًا- كما تحدث البعض- فلا أقل أن يعرف الناس عنه، وتسريب للأرقام التي تم تحصيلها، وإذا كان هذا الملف مؤجلًا لمرحلة لاحقة، فعلى الأقل إبلاغ المواطنين بأننا حاليًا في مرحلة إنقاذ لاقتصاد البلد قد تستمر سنتين أو ثلاث، ثم نأتي لمرحلة التنمية ومحاسبة الفاسدين، الشفافية هي كلمة سر حقيقية، وهي تُسعد الناس أن الحكومة تسير في خطوات صحيحة.
لا يعني هذا الكلام أن لا يظهر الوزير أمام الناس، بالعكس من المهم جدًا أن يظهر بعض المسؤولين أمام المواطنين فيعرضوا خططهم ونجاحاتهم وإخفاقاتهم، ويتحدثوا بصراحة وشفافية وعن عزمهم لمراجعة بعض برامجهم وأساليبهم وتطويرها لما ظهر منها من نتائج سلبية، ويوضحوا رؤيتهم للمستقبل، ولكن لا بد أن يتعلموا كيفية مخاطبة الناس.
صحار بدأت فيها تظاهرات ووقفات بأعداد كبيرة قدموا من مختلف الولايات المجاورة لها، واحتشد الأمن أيضًا، وما شاهدناه من فيديوهات في صحار تظهر أحداثًا غير مقبولة من بعض الشباب، وأدى تطورات أخرى لاحقا والقبض على عدد منهم.
والمطلوب هنا خطابا أبويا من أعلى السلطات يوضح للمواطنين بعض هذه القرارات، ويحدد سقفًا زمنيًا لحل مختلف المشاكل والمطالب، وإلغاء بعض هذه القرارات أو تأجيلها أو تخفيفها، وبالتالي دراستها بتأنٍ وعرضها على مجلس عُمان. وأيضًا فرض ضريبة الدخل وإلغاء ضريبة القيمة المضافة، فضريبة الدخل ستحمي أصحاب الدخول الضعيفة، كما أنها ستنصف بين الناس حسب دخلهم لا حسب مشترياتهم؛ لأنها تتفاوت حسب فئات الدخل.
يجب إيجاد حل سريع لمشكلة الباحثين عن عمل؛ فالوضع بات لا يحتمل إجراءات وقتية هنا وهناك، بل لابد من حلول واضحة، لا تصريحات إعلامية وحسب وأرقام غير دقيقة.
لا بُد من دور للقطاع الخاص وعلى رأسه البنوك والشركات والمؤسسات الكبرى في إيجاد حلول لهذه الأزمة، فالوقوف مع الوطن في أزماته واجب على الجميع، ولأن استقرار البلد أولوية أساسية، ويمكن أن يتمثل هذا الدور بإيقاف تسريح العُمانيين أولًا، وبتعيين آخرين، وبتقديم مساهمات مادية سخية لإعانة الباحثين عن العمل في هذه الفترة العصيبة.
ينبغي أيضًا إجراء تخفيض جدي وسريع وكبير في العمالة الوافدة، لاسيما الوظائف القيادية وإحلال المواطنين مكانهم.
نعرف أن الحكومة لا تملك عصا سحرية، وأن كل هذه الإصلاحات، وتحقيق عيش كريم للمواطن، وكل هذه الملفات الاقتصادية والإدارية تحتاج وقتًا وجهدًا، ولكن في المقابل، لابُد للمواطن أن يُشاهد ويعرف أن حكومته فعلا تسعى نحو هذا، وتُريد هذا، حتى لا تنعدم الثقة بينهما.
وفي الأخير.. أعيد وأؤكد على مبدأ الشفافية، ومبدأ الحوار ومبدأ المشاركة، وأسلوب الخطاب.