البحث في الحداثة والمرجعية واقعا دراسة شاقة ، هي شاقة لأن مصطلح الحداثة نشأ في زمن وبيئة غيرالزمن والبيئة التي نِشأ فيها مصطلح المرجعية ، فالحداثة برزت في مجال الثقافة والفكرالتاريخي في أوروبا بينما المرجعية برزت في التنازع التقليدي الذي تتحكم في أمره العقيدة والشريعة والأخلاق والتي من خلالها اكتشفنا كيف نشأت القضايا ومدى تأثيرها على النشاط البشري في العالم الإسلامي.
الفرق الوحيد بينهما الأول نجح في معركة تنويرالعقل الغربي والثاني تخبط في كيفية تحقيق الوحدة الوطنية ذات التعددية المذهبية والطائفية ولا أتوقع أن نصل إلى نتيجة ملموسة في المدى المنظورولكنني لم أفقد الأمل فدعونا نسيرعلى الطريق لعلنا نبلغ مجمع البحرين كما قال موسى كليم الله لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين.
والنقطة المهمة في هذه المفارقة أن الغرب قدم للعالم الإسلامي تجربتة في معركته مع التنويرونجاحه في إيجاد الرؤية الجديدة للدين والعلم والعلاقة بين الدين والمجتمع وإمكانية الإنتصارعلى الرؤية التقليدية حتى لو كانت هذه الرؤية مترسخة في العقل الجمعي منذ مئات السنين وهذا الإنتصارلم يكن ليتم لو لم تقتلع العقلية القديمة من جذورها.
ونحن إذا نظرنا في داخل الإطارالإسلامي نجد أنه يمكن دراسة ملامح الحداثة والحضارة الغربية إستنادا على المرجعيات التي كانت سائدة في حقبة زمنية معينة بوصفها مؤثرة تأثيرا مباشرا على النشاط البشري ،
ولكننا نجد في وقتنا الحاضرأن أي مشروع تنموي إسلامي يقوم على مبدأ اللحاق بالنموذج الغربي وهذا النموذج بدأ ينتشربشكل سريع وواسع لكن في أي شكل؟ في شكل إعادة هندسة الهوية الداخلية بنظارة غربية مع الإحتفاظ بالغلاف الخارجي.
وفي كل الأحوال فإن الغرب يطرح نفسه على العالم الإسلامي ولايمكن الإفلات منه كما يحاول البعض الذين يخبئون تحت قشرتهم كل الرواسب المذهبية والطائفية ، هؤلاء لا يريدون تفكيك الموروث القديم ، ويدافعون عنه بكل الإعتبارات على أنها من الثوابت ثم يزعمون أنهم يدافعون عن المفاهيم الديموقراطية وحقوق الإنسان ، والغريب أن هذا الخطاب يغلف بغلاف إسلامي فترى لغتهم في الغرب شيء وفي العالم الإسلامي شيء آخر لهذا تم عرقلة الدراسات عن طريق إشاعات واهية.
إن عجلة التنويرفي الغرب والحداثة الغربية هي قديمة وإن العالم الإسلامي قاد المجتمعات البشرية في حين كان الغرب يعيش في الظلمات ، سؤال : الآن الغرب ماذا يقول عن العالم الإسلامي ، هل يقول إنك بنشاطك اليومي تعيش مخرجات عصرالتنويرالإسلامي الذي تتحدث عنه أو إنك تعيش عصرالقرون الوسطى ؟
الجواب : الغرب يقول إن العالم الإسلامي في القرن 21 يعيش عصر القرون الوسطى ، لماذا ؟ لأنك لم تحدد أن الحداثة الغربية قديمة لأي مجتمع إسلامي للمجتمع الباكستاني مثلا أو العراقي أو الكويتي أو المصري أو المغربي أو الأندونيسي أم أنه قديم بالنسبة للمجتمعات الغربية.
هذه الأسئلة هل خطرت على بال أحد ؟ حتى هؤلاء مثيري الإشاعات لم تخطرعلى بالهم ، لأنهم لا يريدون الإعتراف أن المرجعية التي يتبعونها هي ليست المرجعية القرآنية الإلهية التي نادت إلى التسلح بالعلم والتقوى ،
فهم لم يألوا جهدا في معرفة حقيقة مفهوم المرجعية ومكوناتها لهذا هرولت المجتمعات الإسلامية في اللحاق بالنموذج الغربي مع الإحتفاظ بالموروث القديم العفن لأنهم إذا عرفوا مكونات المرجعية وفهموا أهميتها لوجدوا المرجعية تمثلهم على أرض الواقع.
عندها إذا قاموا بتمويل مشروع إسلامي كإنشاء مدرسة تعليم العقيدة الإسلامية مثلا فإننا سنكون مطمئنين أن هذه المدرسة لن تفرخ لنا عقولا أصولية منغلقة على ذاتها لتدخلنا في صراعات دينية وفكرية نضطرحينها إلى تغيرمسارهذه الإستثمارات من التعليم إلى تقوية القطاع العسكري.
طبعا هذا لا يعني أننا يجب أن نأخذ النموذج الغربي لنطبقه بحذافيره لإيجاد تنويرالعقل الإسلامي دون دراسة النواقص في تجربتهم ، وهذا لن يكون إذا لم نستطع قراءة أهم أدوات المعرفة وهي المرجعية ومكوناتها ونشأتها ومستوياتها المعرفية ومدى أهميتها في معالجة قضايا الأمم.
وتحديد مالذي نأخذه من الغرب وما الذي نرده من خلال التفريق بين الإنزلاق والإنغلاق وبين المثاقفة المبصرة والمحاكاة العمياء وبين مقتضيات العصروأمراض العصروبين الإستفادة بالبصيرة وبين التبعية العمياء
دون إلغاء الآخر أو إقصاء الآخر لأن هناك قضايا متصلة بالهوية ومكوناتها وخصوصياتها التي تتمظهرضمن جدلية الصراع بين ثنائيات الأصالة والحداثة والإنفتاح والإنكفاء والتعصب والتسامح وهذه الثنائيات تتدافع لتأسيس التواجد الذاتي وصراع المصالح بكافة أنواعها وهذا الشعوربالآخر وإدراك خصوصياته سيكشف لنا واقعنا المعاصركيف نعيش نحن الآن فوق الواقع أوفوق التاريخ.
نكمل بحثنا في الحلقة (2) إن شاء الله تعالى …. إلى اللقاء.