يشتد الجدل بين فترة وأخرى حول علاقة الرواتب بالإنتاجية، طرف ينادي برفع الرواتب بغض النظر عن إنتاجية الموظف وربطها بمستوى المعيشة، فالرواتب من وجهة نظره لابد أن تتلاءم مع التغيرات الحاصلة في نفقات المعيشة بغض النظر عن إنتاجية الموظفين، وأن الزيادة سوف تزيد من القوة الشرائية للمواطن وتؤدي إلى تنشيط السوق، لأن كل مبلغ يُدفع للموظف مهما كانت درجته المالية، يعاد تدويره في البلد وينشط الاقتصاد.
وطرف آخر يشير إلى عدم وجود مبرر لتلك الزيادة، إذ إنَّ ذلك سيؤدي إلى نتائج عكسية، ويزداد التضخم بسبب انخفاض مستويات الإنتاجية بصورة عامة، كما إن القطاع الخاص ما زال قطاعا خدميا في معظمه، وخدماته غير قابلة للتصدير، وإن أي زيادة في غياب الإنتاجية، ستسهم في انخفاض الأرباح أو تؤدي إلى الخسائر وتسريح الموظفين أو عدم قدرة الشركة على التوسع وتوليد مزيدٍ من الوظائف، وتؤثر على القدرة التنافسية للاقتصاد العماني، وتحد من جذب الاستثمارات وتؤثر سلباً على أية صادرات، وما قد يترتب على ذلك من خلل في ميزان المدفوعات، ومن تهديد لمستقبل النمو والرواتب وفرص العمل ذاتها.
تنبع أهمية الرواتب في عمان من كونها أولا مصدرا أساسيا من مصادر الدخل للعديد من الأسر، وثانيا لاعتقاد البعض أن الزيادة سوف تكون أداة مالية لترغيب المواطنين في العمل بالقطاع الخاص بعد أن ضاقت الوحدات الحكومية بالموظفين، وعدم قدرتها على توظيف المزيد منهم، لاسيما أن عدد الموظفين يفوق كثيرا جدا ما تحتاجه الحكومة، كما تفوق الأعداد كثيرا المعدل العالمي للموظفين لكل ألف من السكان، الأمر الذي أدى إلى تدني الإنتاجية في الأجهزة الحكومية، وإلى ترهل واضح وفساد إداري، كما أصبحت فاتورة الرواتب تشكل خطرا على الموازنة العامة للدولة؛ حيث إنها تستنزف 80% من موازنة عام 2021، كما إن التجارب السابقة لتشجيع المواطنين على العمل في القطاع الخاص عن طريق وضع حدود أدنى للرواتب وزيادتها سنويًا، بغض النظر عن إنتاجية الموظف، لا تؤيد ذلك.
مستويات الرواتب تشير إلى هيكل الرواتب المرتبطة بوظائف مختلفة، وسلم وظيفي متدرج بما يتناسب مع المؤهلات وطبيعة العمل والأداء والخبرة وأخلاقيات العمل، إضافة الى الصفات الشخصية ونوعية المؤسسة والأرباح التي تحققها.
عموما.. يتحدد الراتب بالعلاقة المتبادلة بين عرض العمل والطلب عليه، وعرض العمل هذا عرض شرائح ومستويات متباينة حسب مستويات التعليم والتدريب والتأهيل والخبرة والانضباط والجد والمثابرة وأخلاقيات العمل، ورغبة الموظف للتعلم ذاتياً وصقل مهاراته، والمواصفات والمؤهلات الشخصية الأخرى، وإذا زادت الرواتب بدون زيادة في الإنتاجية، فإنها تؤدي إلى زيادة التكلفة والتضخم، وبالتالي إلى تسريح العمال.
وتشير بعض الدراسات إلى أن زيادة الأجور بنسب 10% بدون زيادة في الإنتاجية، تؤدي إلى الاستغناء عن 3% إلى 5% من العمالة غير الضرورية، عن طريق استعمال وسائل تقنية أكثر تطورا، وفي هذه الحالة سوف تزداد الضغوطات لتشغيلهم في القطاع العام، لا سيما وأن العمل فيه مازال منتهى الأمل بالنسبة لغالبيية الداخلين إلى سوق العمل بسبب شعورهم بالأمن الوظيفي دون أية محاسبة، مع أن التجارب أثبتت أن الأمن الوظيفي أصبح وصفة للترهل الوظيفي.
قضية الرواتب في أي اقتصاد مهما كانت ظروفه ودرجة ومعدل نموه، ترتبط بمثلث حرج، ترتبط أضلاعه ارتباطا وثيقا بالإنتاجية والأسعار وتنتهي قاعدته بالرواتب، ومستويات الرواتب تعكس مستويات الإنتاجية المرتبطة بالإنتاج وجودته وقدرة الشركات على تحقيق الأرباح، ورفع الرواتب من دون أي مقابل إنتاجي يؤدي إلى رفع تكلفة إنتاج السلع والخدمات، ويضطر صاحب العمل إلى تخفيض تكلفته عن طريق تسريح عدد من الموظفين، الأمر الذي سيدفع بمزيد من الأشخاص للبحث عن فرص العمل، وعندما يكثر الباحثون عن عمل، تقل الضغوطات للحصول على زيادة في الرواتب، وبالعكس فمع وجود عمالة ماهرة ومدربة ومتعلمة على كل الأصعدة، وقوانين عمل مرنة، واقتصاد متنامٍ، فإنَّ الشركات تقوم بتوظيف مزيد من الموظفين، الأمر الذي يساهم في زيادة الرواتب حسب قوانين العرض والطلب، ذلك لأن هناك علاقة طردية بين وجود عمالة مدربة ومؤهلة والنمو الاقتصادي ونسب التشغيل ونمو الرواتب.
المفهوم السليم لقضية الرواتب يتطلب النَّظر إليها ليس من خلال التضخم فقط، بل أيضا الالتفات إلى أن الراتب يؤثر ويتأثر بمتغيرات أخرى عديدة، ولابُد من أخذها بعين الاعتبار، وفي اعتقادنا ينبغي أن يركز التحليل الصحيح للرواتب على أربعة إشكاليات رئيسية وهي: علاقة الرواتب بالنمو الاقتصادي، وعلاقة الرواتب بالإنتاجية، وعلاقة الرواتب بالأسعار، وعلاقة الرواتب بالتنافسية، وهذه العلاقات متشابكة مع بعضها البعض، ولا يمكن التركيز على واحدة منها دون الأخرى، كما أن التحليل الصحيح ينبغي أن ينطلق من فرضية هامة، وهي أن تكامل الإشكاليات وتشابكها في منظومة دائرية واحدة مهم، وأن علاج الخلل في الأجزاء لابُد أن يأخذ بعين الاعتبار الأجزاء الأخرى، والرواتب لا تتعامل مع سجلات الحضور والانصراف، بل مع الإنتاجية التي أصبحت الفريضة الغائبة في اقتصادنا، وزيادة الرواتب مع بقاء الإنتاجية على حالها أو تراجعها تؤدي إلى نتائج عكسية وخيمة، مثلما أثبتتها تجارب بلدان وشركات عديدة.
وحدة العمل النسبية في عمان للأنشطة الاقتصادية المختلفة أصبحت أعلى من دول أخرى مماثلة، الأمر الذي أثّر سلباً على القدرة التنافسية للاقتصاد العماني، وعلى قدرته على جذب الاستثمارات لتوليد فرص عمل جديدة ومجدية، كما أن الزيادة في الرواتب، وبدون زيادة في الإنتاجية، تدفع الاقتصاد عموما إلى الوقوع في فخ التضخم المنفلت، وتبدأ العملة الوطنية بفقد قيمتها الشرائية تدريجياً، ومن الصعوبة أن تتم الزيادة في الرواتب بمعزل عن استراتيجيات واضحة، ومسارات متكاملة للنمو الاقتصادي المستدام، وتنويع مصادر الدخل، وإصلاح شامل للأنظمة التعليمية والتدريبية وقوانين العمل، ويُقترح في هذا الصدد تبني استراتيجيات جديدة وواضحة ومتكاملة للنمو المستدام، تتضمن أيضاً تحديدا دقيقا لدور شركاء التنمية، الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني في هذا المجال، بحيث تتكامل الأدوار، ويلتزم الجميع القيام بالأدوار المنوطة لكل طرف في هذه الاستراتيجية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن القطاع الخاص سوف يكون المشغل الأساسي للباحثين عن عمل.
كما إن تحقيق الإصلاح المنشود في سياسة الرواتب وسوق العمل لا يمكن أن يكتمل دون استكمال البنية المؤسسية لسوق العمل، والعلاقة بين العامل وصاحب العمل، لابد أن يكون نتاجا لحوار اجتماعي معمق بين القوى الثلاثة المعنية في المعادلة، وهي الحكومة والعمال وأصحاب العمل، كما أن تحديد الراتب وتسوية المنازعات لايمكن في رأينا أن يتم إلا في إطار هذا الحوار الضروري، الذي يتخذ من رفع الإنتاجية منبرا مشتركا تتفق فيه مصالح الموظفين والشركات بل والمجتمع بأسره، ووجود مؤسسات فاعلة لإدارة الحوار حول هذه القضايا مهم وضروري، قبل أن تتفاقم المشاكل بشكل أكبر.
كل ذلك سيجلب إلى الساحة مرة أخرى قضايا عديدة هي في صلب الموضوع مثل إصلاح كامل وجذري لمنظومتي التعليم والتدريب، وغرس مفاهيم المسؤولية وأخلاقيات العمل لدى الطلبة منذ مرحلة الطفولة، وجذب الاستثمارات، وتوسيع قاعدة الاقتصاد وإصلاح جذري لقانون العمل، وهذه من الأهداف المنشودة في الرؤية الوطنية “عمان 2040”.