Image Not Found

هل الأخلاق ثابتة؟

علي بن داود اللواتي – عُمان

لم تفاجئنا مجلة فوربس كثيرا عندما أعلنت منذ قرابة أسبوع بأن عدد المليارديرات في العالَم قد حقق رقما قياسيا جديدا، بمعدل ملياردير جديد كل سبع عشرة ساعة، وأن القدماء منهم قد حققوا أرباحا قياسية أيضا، وذلك كله خلال فترة جائحة كورونا التي عصفت بحياة الملايين من البشر في نفس العالَم، وكبّدتهم خسائر مادية وغير مادية (قياسية أيضا). إن مثل هذا الإعلان، في الواقع، يكشف أسوأ ما في النظام الاقتصادي العالمي الحالي والمتمثل في ضآلة جانبه الأخلاقي، على أن التوجيهات الأخلاقية نفسها أصبحت غامضة ضمن علاقة جدلية تبادلية من حيث الأثر والمؤثر، ما بين نوع الحداثة التي تجتاح العالَم اليوم، والرأسمالية التي وجدت جنّتها في شيوع النزعة الاستهلاكية وتفوّقها على كثير من قيم ومبادئ الماضي. في ظروف كهذه، يصبح السؤال حول طبيعة الأخلاق ومصدرها جديرا بالإثارة والنقاش. هل للأخلاق أساس منطقي خالص؟

تكون المعرفة حسب التحليلات الحديثة إما تركيبية وصفية كما في العلوم الطبيعية والإنسانية التي تصف الواقع كما هو، وإما تحليلية فارغة كما في علم الرياضيات الذي لا يضيف شيئا جديدا، وكلتاهما لا تملكان صفة المعيارية التي تميز التوجيهات الأخلاقية، وبالتالي يكون إرجاع الأخلاق إلى المعرفة، تاريخيا، سببه سوء فهم لطبيعة المعرفة، والذي كان سببه الأساسي سوء فهم قوانين الرياضيات، حيث اعتقد القدماء من أفلاطون وحتى كانط أن قوانين الرياضيات عقلية تتحكم في العالَم، في حين تبيّن حديثا أنها ذات طبيعية تحليلية فارغة كما أثبت ذلك برتراند رسل وألفرد نورث وايتهد في كتابهما الضخم (مبادئ الرياضيات).

لقد تم إرجاع التوجيهات الأخلاقية منذ زمن سقراط إلى ضرورات أو بديهيات واضحة في ذاتها بالطريقة نفسها التي تم بها إرجاع الرياضيات والهندسة إلى ضرورات أو بديهيات منطقية واضحة في ذاتها (مسلّمات)، والخلط الذي حصل بهذه الطريقة هو أن الوضوح الذي تتسم به البديهيات المزعومة للأخلاق إنما هو في الحقيقة وضوح العلاقة المنطقية بين الغايات والوسائل. بتعبير آخر، عندما نتأمل في المشكلات الأخلاقية فإن ما نتوصل إليه ليس بديهيات واضحة في حد ذاتها، وإنما علاقات منطقية بين غايات نبتغي تحقيقها (أو نتفق على تحقيقها) سواء كأفراد أو جماعات وبين وسائل لازمة لتحقيق تلك الغايات. فالتوجيهات الأخلاقية تتطلب مقدمات تعبر عن رغبة أو إرادة فرد أو جماعة، ولا يهم في هذا السياق الدافع النفسي لتلك الرغبة أو الإرادة أو كيفية نشوئها. المهم أنها كواقع موجودة. فحين يتم الوصول إلى العلاقة المنطقية بأن منع السرقة يؤدي إلى ازدهار المجتمع، مثلا، وقبل أن يتم إقرار التوجيه الأخلاقي بمنع السرقة نكون قد اتفقنا -ولو ضمنيا- كمجتمع أننا نريد الازدهار. بهذه الطريقة، تكون الأخلاق مؤسسة ومنظمة حسب الرغبات المشتركة والمتوافقة وليس قوانين عقلية مجردة.

إن الالتزام الذي نشعر به تجاه التوجيهات الأخلاقية يكون مردها، بالتالي، إلى الحياة الاجتماعية التي ننتمي لها، وينطبق ذلك حتى على تلك التوجيهات التي تبدو معادية للمجتمع. وقد عبّر كارل يونغ عن هذا الأثر الاجتماعي باسم (الوعي الجمعي) الذي تتم تربية الأفراد من خلاله على التكيف مع بعضهم البعض حتى تبدو إرادة الفرد الواحد مجرد أمر ثانوي ويصبح هو مجرد متلق لتوجيهات أخلاقية من سلطة عليا. من جهة أخرى، اللزوم الأخلاقي إما أن يكون منطقيا ناتجا عن واقع عملي يمكن مناقشته، وقد يجادل البعض أنه في هذه الحالة لا تكون له علاقة بالأخلاق أساسا بل بالمنطق العملي كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الألماني هانز ريشبناخ، وإما أن يكون انعكاسيا لإرادة المتكلم، ولا يتحول إلى توجيه أخلاقي إلا إذا تمت الموافقة عليه. بتعبير آخر، تارة يكون اللزوم بين غايات ووسائل يمكن الاتفاق عليها وفق مبادئ الدفع والتدافع وقواعد التأثير والتكيف (اختصارا لمبدأ الديمقراطية الصحيحة) بين الجماعات المختلفة أو الأفراد داخل الجماعة الواحدة. وتارة أخرى يكون عبارة عن رغبات شخصية نفسية تكوّنت كنتاج للمحيط والبيئة، وبالتالي لا تكون لها أسباب منطقية واضحة، وتتغير مع تغير المجتمع نفسه والمؤثرات الخارجية عليه وعلى أفراده. وفي الحالتين، لا تكون الأخلاق ثابتة بل متغيرة حسب متطلبات الموقف وظروف التكيف الجماعي. إن ما يبدو واضحا هو أنه كلما زادت رقعة تطبيق مبدأ الدفع والتدافع والتكيف، وخاصة في عصرنا المتداخل ثقافيًا واقتصاديًا والعابر للحدود، كانت الاتفاقات وبالتالي التوجيهات الأخلاقية في مصلحة أكبر عدد من الفئات والجماعات البشرية المتنوعة والمختلفة في توجهاتها.

عفوية الحياة العامة

في ما يبدو للوهلة الأولى أنها مقابل نظرية الدفع والتدافع الاجتماعي لتغير الأخلاق، يذهب الفيلسوف الدنماركي نود لوغستروب إلى أن ما يحدد ويميز أي أمر أو توجيه أخلاقي هو كونه عفويا وغير محتاج لأي دعم أو تبرير، بل كلما أمكن تبريره سواء بشكل ظاهر أو خفي تزول الصبغة الأخلاقية عنه. يمكن إرجاع هذه التوجه بنحو ما إلى الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس الذي، ووفقًا لطريقته في المذهب الظاهراتي، توصل إلى أن المجتمع لم ينشأ لتحويل مجموعة من الأفراد منعدمي أو قليلي الأخلاق أو متوحشين بطبيعتهم (كما عند الفيلسوف الإنجليزي هوبز وعالم النفس سيغموند فرويد) إلى أخلاقيين، بل العكس تماما. يذهب ليفيناس إلى أن الآخر لا يمكن اختزاله بأي شكل من الأشكال، وطالما كانت علاقة الذات مع الآخر علاقة ثنائية (أي مع الآخر الواحد فقط) فإنها تكون علاقة غير محدودة وغير مشروطة من حيث المسؤولية الأخلاقية، ولكن عندما يدخل طرف (فرد) ثالث في هذه العلاقة يبدأ تشكّل القواعد والقوانين والمسموح والممنوع، والتي ما هي إلا تعابير متنوعة عن الأنانية التي تبدأ تنمو بينهم. يتشكل المجتمع، بالتالي، للحد من المسؤولية الأخلاقية (غير المشروطة في أساسها) وتقييدها بقدرة الإنسان العادي وحساسيته.

يلاحظ عالم الاجتماع الألماني زيغمونت باومان في هذا السياق، وضمن تحليله للحداثة السائلة، أن المسؤولية الأخلاقية أصبحت مصدر حيرة وارتباك مع تفككك الحدود الصلبة والواضحة للمجتمعات القديمة (والدول القومية) وتداخل الثقافات، ولكن تم تدارك الوضع بإحلال النزعة الاستهلاكية والرفع من شأن الذات الفردية محل قيود المجتمع. الأمر الذي نجح إلى حد ملحوظ، وبشكل لم يتوقعه ليفيناس نفسه، في التخفيف من الآثار السيئة. وبالرغم من ذلك، فإن تجاوز النزعة الاستهلاكية لحدها الطبيعي بل وصولها لمستويات قياسية على أصعدة مختلفة لم تعد محدودة بالبضائع والأدوات وإنما امتدت إلى العلاقات وكل شيء يمكن التفكير فيه، فإن ذلك يحد من أثرها الإيجابي ويعيدنا إلى المربع الأول. يقترح باومان إعادة ترتيب وضع المجتمعات والحد من مستويات إنكار الكرامة والتنافس الشديد التي تجتاحها، وبذلك يفسح المجال أمام عفوية الحياة العامة والأخلاقية وفق نظرية لوغستروب. نستخلص من هذا كله أن التوجيهات الأخلاقية مكونات اجتماعية وليست من فرض المنطق أو العقل الخالص، وأنها تتغير مع تغير الأوضاع الاجتماعية وقدرة الأفراد على التكيف، وأن أسلم وأكفأ الطرق لأي نوع من الاتفاق الاجتماعي حولها هو تطبيق مبدأ الحوار والمشاركة الواسعة بحيث تضم فئات وجماعات متنوعة.