ترجح بعض النظريات الحديثة أن البروتينات هي أول المركبات المكونة للخلية الحية التي تكونت على ظهر الكرة الأرضية؛ وذلك لأنَّ البروتينات ما هي إلا سلاسل متراصة من مركبات صغيرة وهي الأحماض الأمينية؛ لذا فإنَّ إمكانية تكون هذه البروتينات بصدفة وعشوائية تامة في ظروف معينة وخلال ملايين السنين بإمكانه أن يُطلق معها شعلة الحياة، فشعلة الحياة انبثقت من صدف عمياء.
وما سنُحاول الإجابة عنه في هذه العُجالة هو الافتراضات التي تمَّ فرضها وهي بساطة هذه البروتينات وإمكانية تكونها بصدفة محضة عبر محاولات تجميع للأحماض الأمينية خلال ملايين السنين.
تتكوَّن البروتينات من مُركَّبات صغيرة تعرف بالأحماض الأمينية، وتتشكل هذه البروتينات عبر سلسلة متصلة من هذه الأحماض الأمينية قد تصل إلى عشرات الآلاف منها، بل قد تصل إلى مئات الآلاف، لكن هذه السلاسل الطويلة من الأحماض الأمينية لا توجد على شكل سلاسل ممتدة، بل تتشكَّل منها مجسمات وأشكال ثلاثية الأبعاد؛ فالبروتينات مركبات مجسمة لها أبعاد ثلاثية.
ومن الظواهر الغريبة أنَّ هذه البروتينات تصبح مركبات ميتة ولا تقوم بوظائفها المعتادة عندما يتغير شكلها ثلاثي الأبعاد، فوظائفها الحيوية لا تعتمد على تركيبتها الكيميائية فحسب، بل لابد من الحفاظ على شكلها الفيزيائي ذي الأبعاد الثلاثية.
لنفترض جدلًا أن ما ذهبت إليه نظرية تكون البروتينات بصدفة وعشوائية أمر ممكن الحدوث (مع أننا نتحفظ على ذلك أيضا)، تُرى: هل هذا الشكل الثلاثي الذي يتشكل منه البروتين يتشكل بمجرد صدف عشوائية، أم أن هناك نظاما وآلية معينة هي التي تؤدي بالبروتين لأن يأخذ شكلا ثلاثيا معينا يستطيع من خلاله القيام بوظيفته الحيوية.
لقد توصل العلماء إلى أن الأحماض الأمينية المكونة للبروتينات يمكن تصنيفها إلى صنفين؛ منها ما هو كاره للماء ومنها ما هو مُحِب للماء، ويتم تصنيف الأحماض الأمينية إلى مُحبِّة وكارهة للماء حسب قدرة الماء على إذابتها، فإذا كان الحمض الأميني يذوب في الماء بسهولة فيوصف بأنه محب للماء، بينما تعرف الأحماض الأمينية التي لا تذوب في الماء أو قد تذوب ولكن بكميات قليلة جدا أو بصعوبة فائقة بأنها مركبات كارهة للماء، وقد لوحظ أنه متى ما تم وضع البروتينات في محاليل مائية فإن الاحماض الأمينية المحبة للماء تتجه باتجاه الماء، بينما تتجه الأحماض الأمينية الكارهة للماء بعيدا عنه، وتحاول أن تنغلق على نفسها، لتكون لها بيئة مناسبة بعيدا عن جزيئات الماء.
كما تمَّ مُلاحظة أنَّ الأحماض الأمينية المحبة للماء قد ترتبط مع بعضها عبر روابط معينة على الرغم من أنها قد لا تكون مجاورة لبعضها البعض؛ وذلك بسبب مرونة البروتين وانسيابيته وقدرته على الالتفاف والالتواء؛ فالبروتين يملك جسما شبيها بالثعابين فهو ذو مرونة فائقة.
… إنَّ المرونة الفائقة الموجودة في البروتينات والعدد الكبير للأحماض الأمينية المكوِّنة لها، والتي تنقسم إلى قسمين: قسم مُحِب للماء وآخر كاره للماء؛ كل ذلك يولد صعوبات وتحديات بالغة في التنبؤ بالشكل الثلاثي لهذه البروتينات، ونظرا لأن النشاط البيولوجي للبروتينات يرتبط ارتباطا وثيقا بشكله الفيزيائي؛ فلقد حاول العلماء خلال سنوات من البحث العلمي إيجاد معادلات رياضية تستطيع التنبؤ بشكل البروتين ثلاثي الأبعاد من خلال معرفة تركيبته الكيميائية، لكن هذه المحاولات كلها باءت بالفشل، ولم نستطع التنبؤ بالشكل الفيزيائي لهذه المركبات.
وفي نوفمبر 2020، نشرت مجلة نيتشر (Nature) العلمية الشهيرة خبرا ذا أهمية باللغة حول نجاح العلماء في الكشف عن سر من أسرار الطبيعة في غاية التعقيد؛ إذ تم الإعلان عن نجاح فريق من العلماء في التنبؤ بالشكل الفيزيائي ثلاثي الأبعاد لهذه البروتينات، وذلك من خلال تطوير برنامج عملاق وغاية في التعقيد يعتمد على آخر ما توصلنا إليه في مجال تقنيات الذكاء الصناعي تم تطويره من قبل شركة “جوجل”، ويستطيع هذا البرنامج أن يتنبأ بالشكل الثلاثي للبروتين بنسبة صحة جيدة جدا.
… إنَّ عدم إمكانية معرفة الشكل ثلاثي الأبعاد للبروتينات، إلا من خلال برنامج عملاق وشديد التعقيد يعتمد كليا على الذكاء الصناعي يدل دلالة قاطعة على وجود نظام دقيق لكنه غاية في التعقيد؛ بحيث يحتاج إلى برنامج عملاق يستطيع أن يأخذ العدد الهائل من المتغيرات ويقوم بعمليات حسابية دقيقة ليتوصل من خلالها إلى الصورة المثالية التي يمكن من خلالها أن يتشكل الشكل ثلاثي الأبعاد لهذه البروتينات.
لكن كل هذه الحسابات المعقدة قد تم أخذها في الحسبان في النظام البيولوجي في الكائنات الحية إذ إنَّ النظام البيولوجي يتضمن معلومات بالغة الدقة؛ بحيث يقوم بإنتاج الشكل ثلاثي الأبعاد للبروتين بشكل مستمر وبسرعة فائقة، مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما أخذه البرنامج شديد التعقيد والمعتمد على الذكاء الصناعي الذي أنتجته شركة “جوجل”، أفلا يدل ذلك على وجود ذكاء خارق للطبيعة وراء ذلك؟!
… إن دقة تكون الشكل الثلاثي لهذه المركبات وارتباط ذلك بنشاطها الحيوي يُثير تساؤلا قويا حول آلية حدوث كل هذه الحوادث الدقيقة بصدف محضة وعشوائية عمياء، فنحن -الكائنات الأذكى على هذه الكرة الأرضية- لجأنا إلى استخدام أعقد التقنيات التي توصلنا إليها للتنبؤ بالشكل الثلاثي لهذه البروتينات.
فهل يمكن للصدف العشوائية العمياء أن تنتج بروتينات ثلاثية الأبعاد بهذه الدقة؟ الحكم لك.
المصادر الرئيسية:
Life’s First Molecule Was Protein, Not RNA, New Model Suggests
https://www.nature.com/articles/d41586-020-03348-4
“لغز الحياة: سلسلة علمية تحاول إلقاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة، والتي ما زال العلم يسبر أغوارها ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها… فكيف نشأت الحياة؟”