يعيشُ العالم اليوم في خضم تحولات فكرية وسياسية واقتصادية وعلمية هائلة، تُغير كثيرا من الحقائق التي كانت سائدة، والتحولات الحاصلة ليست بين جيل وأخر، مثلما كان يحصل سابقا، وإنما تحصل في حياة نفس الجيل ولمرات متعددة، وفي ظل هذه المستجدات التي لا تنتهي، تبرز أهمية مراكز الدراسات الإستراتيجية، التي تلعب دورا مهما في تعميق الرؤى والتصورات عن القضايا المختلفة وانعكاساتها المحلية والإقليمية والدولية.
أول معهد للدراسات الإستراتيجية ودعم القرار في العالم أسسه السياسي والعسكري البريطاني المشهور “دوق ولينجتون” في العام 1831، وهو بطل معركة “واترلو” المشهورة والتي جرت في قرية “واترلو” قرب العاصمة البلجيكية “بروكسل” في العام 1815، وهي المعركة التي شهدت هزيمة كبيرة غير متوقعة لـ”نابليون” ونهاية دوره ونفيه تاليا إلى جزيرة “سانت هيلينا” البركانية الصغيرة في المحيط الأطلسي التابعة لبريطانيا، وذلك في العام 1815 حتى وفاته في العام 1821.
معركة واترلو شكلت بداية أحداث كبرى، وأعادت تشكيل أوروبا بالطريقة التي نعرفها الآن، ودوق ويلينجتون لعب دورا كبيرا في السياسة البريطانية، وأصبح رئيسا للوزراء مرتين، كما لعب أدوارًا متعددة في المعارك التي خاضتها بريطانيا في تلك الفترة.
تعقّد وسرعة تطور القضايا الأمنية في بداية القرن التاسع عشر، جعلا من الوسائل التقليدية غير الاحترافية للتخطيط العسكري سببا في تراجع النفوذ البريطاني، وقد أدرك دوق ويلنتجتون وجود حاجة ماسة لإجراء تغييرات نوعية في وسائل صنع القرارات العسكرية والامنية.
وتدريجيًّا.. انتشرت المعاهد والمراكز في أنحاء مختلفة من العالم، وبعد ذلك توسعت البحوث والدراسات في كافة المجالات، كما بدأت أقسام الدراسات والبحوث تنتشر في الجامعات المختلفة، وأدى كل ذلك إلى نجاحات عديدة ومتوالية للعديد من الدول التي إتبعت التخطيط الإستراتيجي.
ومع دخول العالم الى القرن العشرين تعقّدت المشاكل بصورة أكبر وتسارعت التغييرات بشكل لم يسبق لها مثيل، مما دفع العديد من الدول الأخرى لأن تعي أهمية البحث العلمي وبمراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية واستشراف المستقبل، وتحليل الأسباب الكامنة خلف العديد من المشاكل والإخفاقات، وبلورة الرؤى والمقترحات العلمية المتعلّقة بها، ووضع الحلول المناسبة للتصدي لها، واليوم أصبحت تلك المراكز جزءا من المشهد السياسي والعلمي والتنموي والاقتصادي والعسكري والأمني والتعليمي والاجتماعي في عدد كبير من دول العالم.
وعُمان، وقد دخلت إلى العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، تواجه تحديات عديدة، تختلف عن تلك التي واجهتها في بداية نهضتها الأولى قبل نصف قرن، وهي بحاجة للقيام بتخطيط علمي منظم قائم على المعرفة والتنبؤ بالمستقبل واستشرافه، وتوخى مفاجآته ورصد احتمالاته، وتوظيف البحث العلمي لخدمة قضايا المجتمع، وتقديم الرؤى وطرح الخيارات والبدائل المختلفة لأصحاب القرار.
ومن حق عُمان وواجبها أن تُراجع تجاربها وخياراتها؛ فالمراجعة الأمينة المدروسة ووفق مناهج علمية معروفة، حساب يجمع ويطرح، وهو في النهاية يضيف منجزات وخبرات ويصبح تراكمها أرصدة توفر الطمأنينة لشعبها، ويساعدها على المساهمة بشكل أكبر وأعرض لتحمل رسالة أوسع وأرحب.
وإيجاد مركز وطني للدراسات الإستراتيجية سيساعد عُمان على القيام بدراسات مُعمقة، للكثير من المشاكل التي تواجهها، ودراسة جذورها، وفي كيفية تجاوزها والبحث عن كل البدائل المتاحة، لتقديمها لأصحاب القرار لاختيار البديل المناسب.
إذا كانت الدول الأوروبية سلكت دروب التقدم منذ فترة طويلة، فإن تجربة النمور الآسيوية، تفيد أيضا بقدرتها على التقدم، رغم عدم امتلاكها الثروات الطبيعية، عن طريق تصميمها وحشد كل العقول المتوفرة والاستعانة بالخبرات العالمية، وتجنب اتخاذ قرارات فردية أُحادية غير مدروسة، من أجل بناء قواها الذاتية، معتمدة على مراكز للفكر الإستراتيجي في كل الحقول؛ منها: إعداد دراسات سكانية وإسكانية وأمنية واجتماعبة معمقة، إضافة لإيجاد دراسات عن الامن المائي والغذائي، وتعظيم دور الدولة والقطاع الخاص والمواطن في عملية التنمية المستدامة، وتحديث الأنظمة والقوانين والتشريعات، وإعادة هيكلة قطاعات عديدة عامة وخاصة، بما يتواكب مع آخر مستجدات الثورة التكنولوجبة الرابعة، التي تجتاح العالم، والتي أصبح لها دور فاعل في اختصار الوقت وتفعيل الإنجاز، والتخلص من البيروقراطية المعطلة؛ لأن هذه التحولات أصبحت من أهم سمات الإدارة الحديثة التي تتسم بالكفاءة والإنتاجية.
لقد أثبتت التجارب أنَّ الاعتماد على قرارات جماعية علمية مدروسة أفضل من الاعتماد على قرارات فردية أو الاعتماد في كل مناسبة على بيوت الخبرة الأجنبية وحدها؛ فأغلب تلك البيوت لا تعرف أوضاع البلد ومشاكله وجذوره، ولا تحتك بالمواطنين، وهي أحيانا تعكس رغبات من يطلب منها كتابة تقاريرها، كما أنها أحيانا تعتمد على التقارير السابقة. أما مراكز الخبرة الوطنية فسوف تكون أقرب للصواب، خصوصاً إذا اعتمدت على أفكار وآراء خبرات وطنية مخلصة ممزوجة مع آراء خبراء أجانب ومستفيدة من تجارب دول أخرى ناجحة، كما أنَّ مثل هذه المراكز سوف تتيح مجالا واسعا للسياسيين المتقاعدين والقادة الأمنيين والعسكريين السابقين لمواصلة دورهم في خدمة بلدهم؛ من خلال مشاركتهم لتقديم رصيد خبراتهم وتحليلاتهم للظواهر المختلفة، وتقديم رؤية إستراتيجية تخدم متَّخِذ القرار في تلك الدولة.
كما أنَّ وجود مركز وطني للدراسات الإستراتيجية يعني تفعيل كثير من القطاعات التي تتوافر فيها خبرات وطنية تعمل بأقل من طاقتها الفعلية، وذلك من خلال التعاون والتنسيق مع الخبرات المتوفرة في الجامعات ومراكز البحوث والصناعات الوطنية والقطاعات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والعلمية والصحية، وتعزيز ذلك من خلال الاتصال والتواصل مع المراكز والأوساط المتخصصة على المستوى الإقليمي والدولي.
الدِّراسات الإستراتيجبة هي فى المقام الأول دراسات تبحث فى العلاقات بين الوسائل والغايات، بعبارة أخرى، فإن التحليل الإستراتيجي هو ذلك النمط من التفكير الذى يسعى لتحديد الوسائل والآليات والأدوات المتعلقة بتحقيق أهداف الدولة أو المنظمة، وهي متممة ولاحقة لدور رجل الدولة أو صانع القرار الذى يقوم بتحديد الأهداف الوطنية للدولة، ثم يقوم المفكرون الإستراتيجيون ببحث الوسائل المختلفة لتحقيق هذه الأهداف، وشروط استخدام كل منها، وعناصر الكسب أو الخسارة المتضمنة فى استخدامها، كما يقدم لصاحب القرار ميزة التحرك بالسرعة والسلاسة التي تتطلبها سرعة التغييرات في العالم، وما تفرزه من أوضاع مفاجئة، وأحسن الطرق للتعامل معها، وفي كل الحالات سوف يبقى القرار الأخير لرجل الدولة أو صانع القرار.
من أجل نجاح مركز الدراسات الإستراتيجية والاستفادة القصوى من الدراسات والتقارير المقدمة، يأتي عامل الفضاء الحر، الذي يحيط بطريقة النقاش وتقديم الآراء والأفكار المعروضة، وثانياً الأخذ بالسياسات والبحوث الإستراتيجية المعروضة حيال قضايا الساعة ومناقشتها وتحليلها معهم من قبل صاحب القرار.
عُمان مثل باقي الدول العربية، تفتقر إلى مثل هذه المراكز والمعاهد؛ حيث اعتمدت في رسم معظم سياساتها على رؤى نشأت، إما في عقول الموظفين المستشارين، أو بناءً على ما يصلها من نصائح من مؤسسات دولية اخرى؛ مثل: “مكنزي” أو البنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي…وغيرها من المؤسسات. وتأسيسًا على ما سبق، فإنَّ وجود مركز عُماني للدراسات الإستراتيجية يُعتبر مهما جدًّا، لوجود العديد من الحلول للمشاكل التي نعانيها، وتضييق الهوة المتزايدة بيننا والدول المتقدمة الأخرى؛ ومنها: النمور الآسيوية في كل المجالات، وبإمكانها وضع عمان على الطريق الموصل لنهضة متجددة شاملة.