إذا أردنا أنْ نكشف عن سر الحياة، فلا بُد لنا من الوقوف مليًّا مع عنصر الكربون؛ فهذا العنصر هو العمود الفقري وبلا منازع لكل مركبات الحياة؛ فهو العمود الفقري لجميع المركبات التي تتواجد في الخلية الحية؛ لذا فلابد من أن يكون متوافرا وبشكل كبير عندما بدأت الحياة.
وعندما نعود بالزمن إلى الوراء إلى بدايات نشأة الكون، سنجد أن أول العناصر التي تكونت هي الهيدرجين. إنَّ كميات الهيدرجين المكونة في بداية نشأة الكون اعتمدت كليا على كثافة اللبنات الأساسية للمادة (البروتونات والإلكترونات)، وبعد مضي دقائق على الانفجار العظيم تكوَّنت ذرات الهيليوم والليثيوم التي كونت وحددت كميات الكربون المكونة فيما بعد، والتي نتجت عن الاندماجات النووية، ونتج مع عنصر الكربون العناصر الأخرى المهمة للحياة كالأكسجين والنيتروجين، ومن هنا فإنَّ كثافة اللبنات الأساسية عند نشأة الكون أدت وحددت كميات الكربون التي تكونت فيما بعد، فلو كانت هذه الكثافة أقل مما هي عليه لما أدت إلى تكون الكربون، ولم تكن هناك فرصة لنشأة الحياة إطلاقا، وبالمقابل فلو كانت كثافة اللبنات الأولية أكبر مما هي عليه لأدَّى ذلك إلى تكون ذرات العناصر الثقيلة فقط كالحديد أو العناصر الأثقل من الحديد، ولانعدمت الحياة في هذا الكون، يبدو أنَّ الكون كان يعلم بمجيئنا؛ فلقد صمم منذ اللحظات الأولى لينتج عنصر الكربون العمود الفقري لمركبات الحياة.
والتفاعلات الضخمة التي تحدث في النجوم، ولّدَتْ غبارا وأبخرة كثيرة تملأ الفضاء الموجود بين الأجرام السماوية، وهذا الغبار الفضائي والغازات تعرَّضت مع الوقت إلى كثير من الأشعة فوق البنفسجية ذات الطاقة العالية، كما تعرضت لإشعاعات كونية مختلفة، وشكلت هذه الإشعاعات الكونية مصدرا للطاقة لتكون مختلف المركبات العضوية، ومن هنا تم رصد عدد كبير من المركبات الكيميائية (الفضائية) في الغبار والأبخرة الفضائية منها الماء، وغاز الأمونيا، وغاز الأستلين والفورمالدهيد وغيرها من المركبات العضوية.
ومن هذه المركبات التي تمَّ رصدها في ذرات الغبار الفضائي الأحماض الأمينية، والتي تعد اللبنة الأساسية للبروتينات، أحد المركبات الأساسية في الخلية الحية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف وصلت إلينا هذه المركبات الكيمياوية الفضائية واستوطنت كرتنا الأرضية؟
يبدو أنَّ المذنبات والنيازك والكويكبات الصغيرة الموجودة في مجرتنا لعبت دورًا مهمًّا في تزويد كرتنا الأرضية بمركبات الحياة؛ فقد لوحظ مثلا أن مذنب “هالي” الذي ظهر في سماء الكرة الأرضية عام 1986 يحمل كميات مختلفة من مركبات عضوية؛ مثل: الميثانول، والبنزين وحمض الخليك، بل وأيضا احتوى المذنب على أحماض أمينية.
إنَّ عُمر الكرة الأرضية لا يتجاوز 4.5 مليار سنة، بينما يقدر العلماء أن الحياة نشأت على الكرة الأرضية منذ حوالي 4 مليارات سنة، لذا فإنَّ الفارق بين تكوُّن الكرة الأرضية ونشأة الحياة ربما يتجاوز النصف مليار سنة بقليل، وهي مدة غير كافية لأن تتكون المركبات العضوية البدائية، ومنها تتكوَّن مركبات أخرى معقدة، ومن ثم تتكون الخلية الحية. وعلى الرغم من البحث العلمي المتواصل ودراسة الحفريات المختلفة للصخور، لم يتم العثور حتى يومنا هذا على أية مركبات عضوية نتجت من مركبات لا عضوية في تلك الحقبة الزمنية؛ لذا فقد ظل السؤال الذي يحاول أن يجيب عن مسألة تكون المركبات العضوية الأولية لغزا محيرا!
وأقرب النظريات العلمية التي استطاعت أن تطرح حلًّا لهذه المعضلة هي النظريات العلمية التي تذهب إلى أن المركبات العضوية الأولية هي مركبات عضوية فضائية. وبإرجاع تكوُّن المركبات العضوية الأولية إلى الفضاء؛ استطاعت هذه النظريات العلمية أن تحل إشكالية المدة الزمنية بين تكون الكرة الأرضية وبين نشأة الحياة على كوكب الأرض؛ حيث توضح هذه النظريات أن المركبات العضوية الأولية -بما فيها الأحماض الأمينية- تشكّلت في الفضاء وربما قبل تشكُّل الكرة الأرضية، ومن ثم سقطت من الفضاء إلى الأرض، ونظرا لأن الظروف الطبيعية كانت مُهيَّأة لنشأة الحياة، فقد تكونت من هذه المركبات العضوية المركبات الأساسية لنشوء الحياة على هذا الكوكب.
لكنَّ المعترضين على النظرية أشكلوا بأن هذا لا يحل لغز نشوء المركبات العضوية، وإنما أصبح السؤال: كيف تكونت هذه المركبات العضوية في الفضاء؟ لذا تصدى عدد من العلماء المهتمين للإجابة عن هذه التحديات، ويمكن لمن أحب أن يطلع عليها من المصادر الواردة في هامش المقال.
… إنَّ إرجاع أصل الأحماض الأمينية إلى الفضاء يعني أن أصل البروتينات المكونة للخلية الحية هي من الفضاء، ومن ثم نحن -ولو جزئيا- كائنات فضائية!
لذا؛ إذا رغبت في أن تنظر إلى كائن فضائي، بإمكانك النظر في المرآة!!
- كلية العلوم – جامعة السلطان قابوس
“سلسلة علمية تحاول إلقاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة، والتي لا يزال العلم يسبر أغوارها، ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها.. فكيف نشأت الحياة؟!”
مصادر للتوسع في الموضوع:
The Fifth Miracle, The Search for the Origin and Meaning of Life – Paul Davies.
Improbable Planet, How Earth Became Humanity’s Home – Hugh Ross.