الكون باتساعه لا حياة فيه سوى على كوكبنا، فنحن وعلى الرغم من بحثنا المحموم عن كائنات حية في مختلف بقاع هذا الكون، لم نعثُر إلى يومنا هذا على ما يشير بشكل واضح وصريح إلى وجود حياة في كواكب أخرى، تُرى ما هو السر المودَع في هذا الكرة الأرضية التي استطاعت به أن تحتضن أشكال الحياة المختلفة؟
إنَّ العاملينَ في حقل العلوم الطبيعية يُؤمنون بضرورة توفير الظروف الطبيعية المحيطة لنشأة الحياة، فكما أنَّ بذور النبات تنمو وتكبُر عندما تجد بيئة صالحة لها، فمركب أو مركبات الحياة الأساسية كذلك تحتاج إلى بيئة وحاضنة مناسبة لتنشأ الحياة فيها.
لقد استطاع العلماء التوصُّل من خلال علم الحفريات إلى أنَّ عُمر الحياة على هذه الأرض أقل من أربعة بلايين سنة بقليل.
ولهذا؛ فإنَّ علينا الكشف عن الظروف المناخية والطبيعية التي كانت في تلك الحقبة الزمنية، ومن ثمَّ نَرَى كيف يمكننا استخدام هذه الظروف في تفسير نشأة الحياة على هذا الكوكب.
من المسلمات لدى الكثير من الناس أنَّ الماء والأكسجين هما شرطان أساسيان للحياة، وهذا صحيح لحد كبير؛ فالحفريات تُشير إلى وجود مصادر مياه مختلفة في الأرض كمياه المحيطات ومياه الينابيع الحارة، إضافة إلى بخار الماء المنتشر في أجواء الأرض، لكنَّ الأرض في تلك الحقبة من الزمن كانت شبه خالية من الأكسجين، إذ تشير أغلب الأبحاث العلمية إلى أن النصف الأول من عمر الأرض كان خاليا من الأكسجين، وأن غاز الأكسجين بدأ بالظهور على الكرة الأرضية قبل قرابة 2.4 بليون سنة، وتعد السيانوبكتريا (نوع من البكتريا) والتي تشير الحفريات إلى أنها وجدت قبل حوالي 2.4 بليون سنة هي أول الكائنات الحية التي قامت باستخدام عملية التمثيل الضوئي، والتي تنتج غاز الأكسجين في البيئة المحيطة بالكرة الأرضية.
إنَّ عدمَ وجود الأكسجين في بداية الحياة له أهمية بالغة؛ لأنَّ الأكسجين مُركَّب ضار بالمركبات العضوية البسيطة التي لابد من تكوُّنها في بداية الأمر لتنتج منها مركبات مُعقَّدة شبيهة بالتي نحتاج لها في الخلية الحية.
أما سر الاهتمام بالمركبات العضوية؛ فلأنَّ اللبنات الأولى للمركبات المكونة للكائنات الحية هي مركبات عضوية؛ فهناك عدد من المركبات التي تعدُّ أساسية لنشوء الحياة مثل مركب “دنا” و”رنا” والبروتينات وهي مركبات عضوية.
… إنَّ تقسيمَ الكيمياء إلى كيمياء عضوية وغير عضوية، ناتج عن اعتقاد كان سائدا آنذاك بأن مصدر المركبات العضوية هي الكائنات الحية، أما المركبات غير العضوية فتوجد في الطبيعة، وليس بالضرورة تنتج من الكائنات الحية؛ لذا فأول سؤال كان على العلماء الإجابة عنه هو: كيف تكونت المركبات العضوية الأولى؟
وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال، حاول بعضهم محاكاة الظروف البيئية لتلك الحقبة الزمنية، ومن ثم حاولوا أن يراقبوا: هل بالإمكان أن تنشأ بعض المركبات العضوية المرتبطة بالحياة في تلك الظروف أم لا.
ففي العام 1953م حاول ستانلي ميلر، وكان آنذاك طالبا يقوم بأبحاثه تحت إشراف د. هارولد سي يوري، أن يحاكي الظروف الجوية الموجودة في الفترة الزمنية التي تم تقديرها لنشأة الحياة على كوكبنا؛ حيث هيَّأ خلالها جوًّا مكونا من مزيج من الغازات، افترض أنها كانت موجودة في بداية الكون، وهذه الغازات التي افترض وجودها هي كل من غاز الميثان والهيدروجين والأمونيا، كما افترض أنَّ البيئة كانت خالية من الأكسجين، ولأنَّ التفاعل يحتاج مصدرًا للطاقة، فلقد قام بتوصيل تيار كهربائي إلى داخل هذا المزيج، إذ اعتبر أن التيار الكهربائي يُمثل مصدر الطاقة محاكيًا للطاقة الناتجة عن الشمس، لكنه استخدمه ليسرع بعض الشيء من التفاعلات الكيميائية بدل الانتظار لفترات طويلة.
احتفظَ ميلر بهذا التفاعل لمدة استمرت أسبوعا تقريباً، وفي نهاية هذه الفترة لاحظ أنَّ تفاعلا قد حدث بالفعل، ونتج عنه عدد من المركبات الأولية.
تُرى: ما هي هذه المركبات؟ وهل بالفعل حصلنا على الخلطة السحرية للحياة؟ تلك الخلطة التي بحثت عنها البشرية لآلاف السنين.
لقد كان لهذه التجربة صدى علمي كبير؛ لأنها أثبتت أنَّ عددا من المركبات العضوية تولدت من مواد أولية لا عضوية، كما اتَّضح من تحليل هذه المركبات أنها تحوي مركبات ذات أهمية خاصة، وهي ما يُعرف بالأحماض الأمينية، والتي تعد اللبنة الأساسية للبروتينات.
لكنَّ الحماس -الذي طغى على الوسط العلمي- بدأ بالانحسار مع التقدم العلمي؛ إذ تبيَّن أنَّ الظروف والغازات التي افترض ميلر وجودها لم تكن كذلك في تلك الفترة الزمنية من عمر الكرة الأرضية، فالظن الغالب أن الغازات في تلك الفترة كانت مُقتصرة على ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين، كما أنَّ غاز الميثان الذي افترض ميلر وجوده هو غاز عضوي ينتج من تحلل المواد العضوية؛ لذا فلابد من تفسير يوضح من أين حصلنا عليه، لأنَّ فرص وجوده بكميات كبيرة من مصادر لا حياة فيها أمر لا يمكن تفسيره.
إنَّنا عِندما نُحلل المركبات الأساسية للحياة، نجد أنَّها تحتوي على عناصر أولية؛ وهي الكربون والأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والفوسفور والكبريت، لهذا فإنَّ أول سؤال علينا أن نجيب عنه؛ هو: من أين أتت هذه العناصر الأساسية، والتي منها تكونت اللبنات الأولى للمركبات اللازمة لنشوء الحياة؟
… إنَّ مسيرة البحث عن نشأة الحياة مليئة بالتحديات الكبيرة، وكأنها تشير للبشرية بأنَّ الحياة برمتها تحد كبير علينا أن نواجهه ونعيشه.
مصادر للتوسع في الموضوع:
Origin of Life, What Everyone Needs to Know – David W. Deamer
Improbable Planet, How Earth Became Humanity’s Home – Hugh Ross
لغز الحياة: “سلسلة علمية تحاول إلقاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة، والتي لا يزال العلم يسبر غورها، ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها… كيف نشأت الحياة؟”.