Image Not Found

اعلموا أني فاطمة (12و 13)

صادق حسن اللواتي

شرعية النص وسلطة المتخيل (1)

كان كلامنا فيما سبق عن موقع السيدة فاطمة في التاريخ والتراث الروائي ، وقد تبين لنا أن التراث الروائي يتغذى على المعطيات التاريخية ويتخذها رافدا له كي يستمرفي وجوده من ناحية ، ولبناء خطابه الخاص به من ناحية أخرى.

وهذا الخطاب تأسس على قاعدة التأويل والتحويل واستعمال الشكل الاستعاري يحمل رمزية معينة منحت له السيطرة والتوظيف لكل ما من شأنه الابتعاد عن الحقيقة ، وهوما يسمى (بالخطاب المتخيل) فهو نقيض للواقع ويتقاطع معه وميدان هذا التقاطع هو الذات مقابل الآخر

فهو يطرح النص الروائي بشكل صريح يكشف فيه عن واقعه المزيف ويمارس فيه الإبداع تمهيدا لنشرالتأويلات الوهمية ليصل إلى تحليل بسيط لا يتجاوز الموروث الروائي.

فيقدم قراءة لا توجد إلا في مخيلته لا حقيقة واقعية لها ، يقول نجيب محمود (تتجلى هذه القراءة في الاختيارات الثقافية ينقل من خلالها ثقله الفردي داخل التنظيمات الاجتماعية وله في هذه التنظيمات كامل الحرية يتمتع بها تمكنه من بلوغ هدفه ضمن البيئة التي يعرفها ، فظهرت لنا سلطة أخرى هي (سلطة المتخيل).

لنوضح المعنى أكثرهناك عدد من النساء الصالحات نزلن من العالم العلوي في حضرة خديجة لحظة وضع السيدة فاطمة وهن (آسية بنت مزاحم ، سارة زوجة إبرهيم ، مريم بنت عمران ، وكلثوم بنت عمران) ما هو السرفي هذا الاختيار؟ ركزوا معي رجاء

آسية بنت مزاحم لعبت دورالأم في تربية موسى النبي في قصرفرعون ، سارة أم نبي الله إسحاق حملت به على كبروكانت عاقرا ، مريم بنت عمران حملت دون أن يمسها بشر، كلثوم بنت عمران لعبت دورالأم في الوصول إلى المرضعة لنبي الله موسى ،

فهن جميعهن لعبن دورالأمومة في أوقات عصيبة من حياتهن، فحضورهن في حضرة خديجة لحظة وضع فاطمة كان له دلالة ومعاني رمزية للأمومة ، وهذه المعاني ترجمت من أجل تقديم خطاب متميز يتداخل مع نص تكنية السيدة فاطمة (بأم أبيها) ليكسب خصوصية في علاقته مع الآخر

وهذا النص كي يصل إلى مقصده في بيان أفضلية السيدة فاطمة على جميع النسوة وخاصة مريم بنت عمران لأنها أكثر حضورا في التاريخ ، نسج المتخيل خيوط تطابق تكلم السيدة فاطمة في المهد مع تكلم عيسى النبي في المهد ، فأصبحت مريم في مقابل فاطمة

وأضاف في خطابه الخصال المشتركة للتميزالأفضلية بين السيدة فاطمة والسيدة مريم ، مثلا جاء في (بحارالأنوارجزء 43 ص 48 ـ51) مريم بُشرت بولد واحد وفاطمة بُشرت بولدين الحسن والحسين ، رزق مريم من الجنة , ونطفة فاطمة من ثمارالجنة ،

ولادة عيسى قبل الإسلام (الجاهلية) وولادة فاطمة على فطرة الإسلام ، مريم كانت عازبة (العزوبة مذمومة) وفاطمة تزوجت (الزواج محمود)

من هي الأفضل الآن فاطمة أم مريم ؟ مؤكد فاطمة وهذا يتعارض مع الحديث النبوي الشريف في الأفضلية الجماعية الرباعية النسائية والذي وضع فيه السيدة مريم في الرتبة الأولى ، إذن ما الذي حدث ؟ الجواب الحديث النبوي الشريف وضع لكل سيدة استنطاقها الخاص بها حينها كانت سلطة النص بيد مؤلف النص وهو النبي الخاتم (ص)

ولكن عندما جاء صاحب بحار الأنوار- المجلسي وحدد الخصال المشتركة للتميز الأفضلية بين مريم وفاطمة ، انتقلت سلطة نص الحديث النبوي من يد المؤلف إلى يد المتخيل وللوصول إلى هذا الهدف

استخدم الأخير كل طاقاته في توظيف كل الوسائل المتاحة له للإستحكام على سلطة النص حتى لو كانت هذه الوسائل تعسفية كالذي اعتمده في مقياس أسبقية ولادة عيسى في الجاهلية في محاولة منه لطمس حقيقة أن اسم فاطمة كان متداولا في الجاهلية

تعالوا نتقدم شوطا آخر إلى الأمام في ترجمة السيدة فاطمة لنتعرف على تقنية المتخيل في النصوص المقدسة وقدرته على تثبيت أحداث مزيفة لا علاقة لها بالتاريخ ، مثلا زواج (فاطمة من علي) ، كان زواجان الأول زواج أرضي ، والثاني في المتخيل أنه زواج سماوي وفيه قرارإلهي ،

زواج أرضي علي يخطب فاطمة من أبيها (ص) ، زواج سماوي جبرائيل يهبط من السماء ويقول للنبي الخاتم (ص) أن الله تعالى زوج فاطمة من علي وأشهد على تزويجها 40 ألف ملك ، المهرالأرضي أربعمائة درهم ، والمهرالسماوي خمس الأرض (بحارالأنوارجزء 43 ص 113-114).

الزفاف الأرضي كان بدفوف وفرحة النساء الصحابيات والهاشميات يرافقن فاطمة ، الزفاف السماوي النبي الخاتم (ص) أركب فاطمة على بغلته وقاد هو البغلة ، وجبرائيل وميكائيل والملائكة صافون من ورائه هم والصحابة يكبرون بتكبيرته (ص) في مشهد مهيب منقطع النظير لن تجده في تاريخ أبناء الأنبياء قط

هدايا الزواج الأرضي الصحابة والهاشميين يشاركون في تأثيث بيت فاطمة وعلي ، الهدية السماوية جبرائيل أهدى لفاطمة وعلي ليلة زفافهما سفرجلة من الجنة (بحارالأنوارجزء 43 ص 106)

ثمار هذا الزواج أنجبت فاطمة أربعة أبناء ، الله عزوجل يتدخل في تسمية (حسن وحسين) بينما الإمام علي كان يريد تسمية أبنائه (حسن وحسين) (حمزة أو حرب) (مسند أحمد بن حنبل جزء1 ص 98 مسند علي) (تاريخ مدينة دمشق لإبن عساكر جزء 13 ص170 ) و (الحاكم في المستدرك على الصحيحين جزء 3 ص 106) ،

وقد صحح شمس الأئمة المحقق الشيخ أحمد محمد شاكر سندها ، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء يشيد بأحمد محمد شاكر ويعتبره من أدق البحاثة (أصل الشيعة وأصولها ص 282).

نكمل بحثنا في الحلقة (13) إن شاء الله تعالى….. إلى اللقاء.

شرعية النص وسلطة المتخيل (2)

الملاحظ في ترجمة السيدة فاطمة حول الأحداث المتعلقة بها في مصادر المسلمين إلى حدود القرن الثالث الهجري ممكنة الحصول من منظور تاريخي وليس فيها ما يخرج عن سنن التاريخ مثل : (الطبقات لإبن سعد) المتوفي عام 230 هجري ، (حلية الأولياء ونعيم الأصفياء) لأبي فرج الأصفهاني المتوفي عام 430 هجري.

ولكن إذا ما جئنا إلى مصادرالقرن الخامس إلى الثاني عشرالهجري مثل (تنبيه الغافلين في فضائل الطالبين) لإبن كرامة المتوفي عام 494 هجري ، (ومناقب آل أبي طالب لإبن شهرأشوب) المتوفي 588 هجري ، (بحار الأنوارللمجلسي) المتوفي عام 1111 هجري نجد هناك تسلل في معطياتها ، والمواد المذكورة فيها والتي لا يمكن قبولها لأن لاعلاقة لها بالتاريخ.

وهذا التسلل لايعدوا في كثيرمن الأحيان كونه محاولة لملئ الجانب التاريخي بالهوامش وإضاءة عالم جديد بشخصياته وأمكننته ليصبح حافزا في كتابة التاريخ الجديد وهذه هي المهمة التي يقوم بها المتخيل الروائي ،

فالنص الروائي في نظرالمتخيل يتكون من ثلاث مسائل : (وقائع تاريخية كما وقعت ، إعادة حكي هذه الواقعة سواء مشافهة أوكتابة ، إضافة بعض العناصرالتخييلية) ، فلا تظن أن المتخيل الروائي جاء بالرواية من فراغ لا أبدا فما كان قد وقع تاريخيا يأتي المتخيل الروائي فيضيف عليه تأنيثات تخييلية لإغراء المتلقي بالتفاعل مع النص والإعجاب به.

وهذا خلاف الأسس العلمية في البحث التاريخي ، لأن البحث التاريخي يهتم بكل جوانب الواقعة من حيث الزمان والمكان والظروف المحيطة بها ودراسة شخصياتها ولا يسمح أن تفلت منه جزئية واحدة حتى لو كانت نسبية من أجل نقل الحقيقة ، بينما المتخيل الروائي لا يهتم بكل هذه الجوانب بل أجل اهتمامه إضافة عناصرتخيلية على النص التاريخي.

ففي ترجمة السيدة فاطمة المتخيل الروائي جاهد في استعادة التاريخ بشكل آخرلتحقيق هدف الأفضلية وذلك بتأويل ما يمكن تأوِيله في القرآن لبيان أفضلية فاطمة على مريم تماما كما قام به علماء الحديث والتفسيركالأشعري والحنابلة الذين كانوا بحاجة إلى النص لبيان فضائل الصحابة فقاموا بتأويل وتفسير النصوص القرآنية لتحقيق هذا الهدف (نادرحمامي في كتابه صورة الصحابي في كتب الحديث ص 13-14).

هذا التنظيرفي ترجمة السيدة فاطمة ستجدونه في (سيرة أعلام النبلاء – للذهبي جزء 2 ص 123 رواية حذيفة بن اليمان عن رسول الله (ص) أنه قال : (نزل ملك فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة).

فارتبطت هذه الرواية مع الآية 42 من سورة آل عمران (إذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) حيث نسب إلى النبي الخاتم (ص) أنه قال عن السيدة فاطمة كما جاء في (بحارالأنوار جزء43 ص 24)

(أنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من الملائكة المقربين وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون (يافاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) فطهارة مريم ليست جسدية لأن جاءها المخاض عند جذع النخلة

وهي إفرازات بيضاء مع دم في الطمث عند الولادة وهوما يسمى علميا بالسدادة المخاطية ، أما فاطمة لم يرى لها دم في الطمث عند ولادة الحسن (تاريخ الخميس – ديار بكري ــ جزء 1 ص 417).

والإمام الصادق (ع) يقول (إن بنات الأنبياء لا يطمثن إنما الطمث عقوبة وأول من طمثت سارة) (بحارالأنوارجزء43 ص 13) هنا جاء ذكرسارة مرة أخرى وهي التي نزلت مع نساء أخريات من العالم العلوي في حضرة خديجة لحظة وضع فاطمة ، فعن أي عقوبة يتحدث الصادق(ع) ؟

جاء في (قصص الأنبياء للثعلبي ص 29) (أن حواء أكلت من الشجرة فدميت) أليس هذا دليل كاف على جعل مقصد المتخيل أن السيدة فاطمة طاهرة ومحصنة من العقوبة التي أنزلت بالمرأة والتي لم يستثنى منها أحد من النساء غيرها.

أما الطريقة الثانية هي المقارنة الثنائية بدل الأفضلية الرباعية جاء في (الإستيعاب لإبن عبد البرجزء 4 ص 895 (أن مريم سيدة نساء عالمها) والخبرذاته يرويه (المجلسي في بحارالانوارجزء 43 ص37- 77)

أن فاطمة قالت (يا أبت أنا خيرأم مريم) فقال رسول الله (ص) : (أنت في قومك ومريم في قومها) وفي خبر أخر عن الصادق(ع) قول الرسول (ص)فاطمة سيدة نساء أهل الجنة أي سيدة نساء عالمها قال ذاك مريم وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والأخرين

مع أنك لن تجد في الفكرالمسيحي أن مريم سيدة نساء عالمها ، هذه الثقافة عند المسلمين فقط لأن عيسى النبي لم يخبرقومه أن أمه سيدة نساء عالمها ، ومريم في الكتاب المقدس إنسانة في الخطية تحتاج إلى المسيح لكي يخلصها مثل سائرالبشر(سفر جامعة 7 الإصحاح20) وأنها مارست حياتها الطبيعية مع يوسف بعد ولادة إبنها البكر فلم تعد عذراء (متى 1 الإصحاح25)

فإذا كانت هذه نظرة الكتاب المقدس في مريم التي كانت تسمى مريم القديسة وأم الحكمة.فهل تتوقع إذا فرضت عليهم السيدة فاطمة وهم لا يعرفونها ولا يدينون بدينها أنهم سيقبلون بها سيدة على نسائهم ؟ الجواب كلا ،

ولكن المتخيل الروائي جمع المشتركات بين مريم وفاطمة من قبيل القول (مريم البتول وفاطمة البتول) مريم انقطعت عن الرجال للعبادة وفاطمة انقطعت عن النساء للعبادة. (بحارالأنوار جزء43 ص 15).

هناك الكثيرفي جعبة المتخيل حول سيرة السيدة فاطمة ولكن نكتفي بهذا القدرمن الحديث في شرعية النص وسلطة المتخيل لنكمل بحثنا في الحلقة (14) حيث سنعمد لبيان سيرة السيدة فاطمة بما هي فاطمة بعيدا عن صخب المتخيل الروائي إن شاء الله تعالى…… إلى اللقاء.