مصنع الحياة هو مصنع بحجم النانو، ويتواجد منه الملايين في كل واحد منا، إنها مصانع موجودة في الخلية؛ فكلُّ واحد منا يحوي ملايين الخلايا الحية، وكل خلية حية تحتوي على آلاف المصانع والتي تقوم بإنتاج المركبات الضرورية للحياة، لنُلق نظرة على مصانع الحياة، وكيف تقوم بإنشاء المركبات الضرورية للحياة.
ذكرنا فيما مضى أن الشفرة الوراثية مكتوبة ومخزنة في مركب الـ”دي.إن.إيه” (وهو الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين)، وهذه الشفرة مكتوبة بلغة تتكون من أربعة حروف فقط (4 مركبات كيميائية). إن هذه الشفرة الوراثية هي شبيهة ببرامج الحاسوب فهي تحتوي على تعليمات لمصانع الحياة ترشدها إلى كيفية إنتاج منتج بالغ الأهمية يعرف بالبروتينات، وهي اللبنات الأساسية التي تُبنى بها خلايا وأنسجة وأعضاء الكائن الحي، لذا فإن الشفرات الوراثية المخزنة في الـ”دي.إن.إيه” تحتوي على تعليمات عن نوع البروتينات التي يجب إنتاجها.
وهذه البروتينات عبارة عن مركبات كيميائية كبيرة للغاية تتكون من وحدات صغيرة ترتبط ببعضها البعض، هذه الوحدات الصغيرة تعرف بالأحماض الأمينية، وهي على أصناف عدة تختلف اختلافات بسيطة عن بعضها البعض، ويوجد منها في الطبيعة ما يقارب العشرين صنفا، ترتبط هذه الأحماض الأمينية مع بعضها البعض في سلاسل طويلة وبأعداد مختلفة لتكون آلاف البروتينات التي تقوم بالأنشطة المختلفة التي يقوم بها الكائن الحي.
ذكرنا أنَّ هناك أربعة مركبات فقط كُتبت بها الشفرة الوراثية، بينما يوجد هناك عشرون صنفا من الحمض الأميني، فكيف يمكن إنتاج عشرين حمضا أمينيا من خلال لغة مكتوبة بأربعة مُركَّبات؟
والجواب أنَّ المركبات الأربعة تجتمع في تكتلات ثلاثية، وكل تكتل ثلاثي يعني حمضا أمينيا معينا، فكما نقوم بإنتاج الكلمات التي لا حصر لها من 28 حرفا في اللغة العربية من خلال تجميع الحروف بطريقة معينة لتنتج كلمات ذات دلالة ومعنى، فكذلك مركب الـ”دي.إن.إيه” يقوم بجمع ثلاث مركبات كيميائية معا وكل تجمع يعني حمضا أمينيا معينا، وبهذه الطريقة يمكننا إنتاج عشرين حمضا أمينيا من أربعة مركبات فقط.
ويوجد في الخلية مصنع يقوم بدور الطابعة ثلاثية الأبعاد؛ فهذا المصنع بعد أن يستلم الشفرة الوراثية من الـ”دي.إن.إيه” يقوم بقراءة التعليمات الواردة، ومن ثم إنتاج البروتين المطلوب؛ وذلك بوضع الحمض الأميني واحدا تلو الآخر كما ورد في الشفرة الوراثية، لينتج في نهاية الأمر بروتينا معينا يتكوَّن من آلاف الأحماض الأمينية، ويطلق على المصنع اسم “الرايبوزومات” وهناك آلاف الريبوسومات منتشرة في الخلية الواحدة تنتج عشرات الآلاف من البروتينات في حركة دائبة ومستمرة، فهذا المصنع لا يعتري أصحابه كلل أو ملل، فهو يستمر في العمل ليل نهار إلى أن تأتيه الأوامر من الـ”دي.إن.إيه” بالتوقف.
ولأنَّ مركب الـ”دي.إن.إيه” ثمين ومهم للغاية، فهو لا يغادر موقعه أبدا فهو يتواجد في نواة الخلية ولا يغادرها؛ فهناك مركبات كيميائية أخرى في الخلية تلعب دورا مهمًّا، إنها مركبات وسيطة بين الـ”دي.إن.إيه” وبين الريبوسومات ودورها ينحصر في قراءة الشفرة الوراثية المخزنة في الـ”دي.إن.إيه”، ومن ثم نقلها الى الريبوسومات وتعرف هذه المركبات بـ”رنا المرسال mRNA”.
إنَّ أول التحديات التي تواجهنا لإنتاج خلية حية من مركبات لا حياة فيها هو تحديد المركب الأول لنشأة الحياة، لأن مركب الـ”دي.إن.إيه” لا يستطيع أن يقوم بعملية التصنيع بذاته فهو وإن كان يحوي على الشفرة الوراثية، إلا أنه يحتاج إلى الريبوسومات لتحول الشفرة الوراثية إلى منتج وهي مركبات البروتينات التي تقوم بوظائف الكائن الحي وإنتاج الخلايا المختلفة، إلا أنَّ الغريب في الأمر أن هذه الرايبوزومات (مصانع البروتين) هي بنفسها تتكون من البروتينات، ومن هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه أي هذه المركبات تكونت بادئ الأمر؟ والجواب يبدوا شائكا فهو شبيه بسؤال: هل البيضة تسبق الدجاجة أم الدجاجة تسبق البيضة؟ فهل البروتينات تكونت أولا أم أن مركبات الـ”دي.إن.إيه” هي التي تكونت بادئ الأمر؟!
إضافة إلى ما سبق، فإنَّ هذه المركبات لكي تقوم بوظائفها فلابد أن تكون في محيط مغلق على نفسه حتى لا تتأثر بالملوثات الخارجية فهذه المركبات تفقد نشاطها بسرعة كبيرة إذا تغير محيطها؛ ولهذا لابد من جدار يحميها من المحيط الخارجي إنه “جدار الخلية”.
فهل حقا سر الحياة في هذه المركبات؟ فإذا قمنا بتصنيع أحدها قمنا بإنتاج الحياة؟! أم إن سر الحياة ربما يكمن في التنسيق العجيب والمدهش بين هذه المركبات الكيميائية فالحياة تدب بين هذه المركبات وليس فيها؛ وذلك هو سر الحياة الذي نبحث عنه؟!
مصادر للتوسع في الموضوع:
1- The Cell’s Design (Reasons to Believe), How Chemistry Reveals the Creator’s Artistry – Fazale Rana
2- Origin of Life, What Everyone Needs to Know – David W. Deamer
- “لغز الحياة”: سلسلة علمية تحاول إلقاء الضوء على أهم وأصعب أسرار الطبيعة قاطبة، والتي لا يزال العلم يسبر غورها، ويحاول جاهدا كشف مكنون أسرارها… كيف نشأت الحياة؟