حيدر بن عبدالرضا اللواتي – الرؤية
ربما يستغرب البعض عندما يعلم أنَّ بعض الدول المتقدمة في أوروبا وخارجها لا تشترط على رواد الأعمال والداخلين في الأعمال الحرة أي مبلغ مالي لبدء مشروعه التجاري إلا بعد مرور سنة على تأسيس المشروع، بل تنتظر لفترة مُماثلة لإنهاء جميع التعاملات المرتبطة بأعماله كتصميم المحل التجاري، وتركيب اللافتة، وفتح الحساب البنكي، والاتيان بالبضاعة المطلوبة، والحصول على العمالة اللازمة وغيرها من الأمور الأخرى.
في ألمانيا، على سبيل المثال، سمعنا من المسؤولين في الجهات المعنية في فترة التسعينيات من القرن الماضي بأنَّ فتح السجل التجاري من الجهة المعنية كان يكلّف “ماركًا” ألمانياً واحداً، وهي العملة التي كانت تستخدمها جمهورية ألمانيا الاتحادية قبل صدور العملة الموحدة “اليورو” لتلك الدول التي تضم مجموعتها اليوم 28 دولة من خلال الاتحاد الأوروبي. هذه الدولة الأوروبية وغيرها من الدول في المجموعة وخارجها حريصة على تسهيل إجراءات العمل الحر للشخص المبتدئ وعدم تحميله المشقة في الأمور المالية والإدارية عند بدء مشروعه التجاري منذ أول يوم.
فإذا كانت الدولة تؤمن بأهمية العمل الحر، فلتكن مثل هذه الإجرءات هي الحوافز الحقيقية لأصحاب المشاريع الصغيرة المبتدئة في جميع أنحاء السلطنة، بل توفّر لهم الجهات المعنية الوسائل والطرق الكفيلة لبدء المشاريع، كما يحصل مع القطاع الصناعي والسياحي والزراعي وغيره، حيث توفّر لهم الدولة الحوافز والدعم والأراضي والمناطق الصناعية، وتقدّم لهم التسهيلات في عملية الاستيراد والتصدير، والإعفاء من الجمارك وغيرها من الأمور التي تدفع إلى استدامة هذه المشاريع.
إذاً علينا التقليل من الإجراءات التي تتطلب من أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة الالتزام بها قبل بداية مشاريعهم سواء في المجالات التجارية أو في الأعمال المتخصصة. بل يمكنُ أن يُنظر إلى تقديم هذه التسهيلات من خلال توجه البلديات في مسقط وخارجها باختيار الأماكن الجديدة لهم في كل شارع وسكة وساحة يمكن أن تنطلق منها مشاريعهم الخاصة، وبإيجارات متواضعة شريطة أن تدار هذه المؤسسات من قبل العمانيين فقط. وأن تكون محاسبتهم بعد مرور سنة على انطلاق مشاريعهم الصغيرة. وهذا ما عرفنا عن مثل هذه المشاريع في ألمانيا، حيث يتم التسجيل النهائي لكل المؤسسات بوزارات التجارة بعد مرور سنة على إنشائها، بل تُعطى فرصة مماثلة لاستكمال جميع تلك الإجراءات وانطلاقها في العمل التجاري لاحقاً، بحيث تبدأ الجهات المعنية في حالة نجاحها محاسبتها مالياً وفرض الضرائب عليها.
نحن أحوج اليوم إلى مثل هذه المُمارسات في العمل التجاري لجذب الشباب العماني للعمل في مؤسساتهم كلٌ في مجال تخصصة، بحيث لا يكون صاحب المؤسسة مطارداً من عدة مؤسسات في بداية عمله كوزارة التجارة والصناعة وغرفة التجارة والصناعة، والبلدية وشرطة عمان السلطانية والعمل، والوزارات المختصة التي تقدّم التصاريح المتخصصة في بعض الأعمال لدفع الالتزامات المالية منذ أول يوم عمل لهم. هذه الخطوات ضرورية لاستمرار الشباب في أعمالهم التجارية، وبالتالي سنعمل على محاربة التجارة المستترة التي نجح الوافدون في السيطرة عليها بأساليبهم الخاصة، وأبعدوا العمانيون عن ممارسة التجارة الحقيقية بسبب الالتزامات المالية التي تترتب عليهم من جراء الأمور الإجرائية والمالية التي تشكّل أحياناً ضعفاً في ممارسة التجارة والعمل التجاري الحر.
لنرى اليوم كم من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في البلاد تُعاني من التزامات مالية عليها بسبب الإجراءات المتبعة التي تنص عليها المؤسسات الرسمية؟؟ في الوقت الذي بدأت فيه الجائحة كوفيد 19 بتحطيم مفاصل هذه المؤسسات. ألا يمكن التقليل من ذلك؟؟ بل إعفاء العمانيين لسنتين من هذه الإجراءات ليتمكن الشخص المبتدئ من الاستمرار في مؤسسته دون أية ضغوط عليه من الجهات المعنية؟ فهؤلاء عليهم دفع الضرائب والمخالفات البسيطة التي تصدر من البلديات والشرطة وغيرها من المؤسسات، والتي يمكن تسويتها بصورة ودية، ناهيك عن التزامات المصارف والمؤسسات المالية التي لا تَرحم هذه الفئة حيث دخل بعضهم السجون نتيجة للإجراءات القانونية التي تُتخذ ضدهم في المحاكم.
اليوم نحن محتاجون إلى إعادة تنظيم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بحيث يستطيع التاجر الفرد ورائد الأعمال التكيّف مع العمل التجاري من خلال الإجراءات الجديدة المحفزة للشباب للعمل وإدارة مؤسساتهم التجارية الصغيرة. وهذا هو الأسلوب – في نظري – يمكن أن يؤدي إلى زيادة عدد هذه المؤسسات في السلطنة، تلك التي يمكن إدارتها بصورة فعلية وبعيدة عن ممارسة التجارة المستترة، مع إعطاء المواطنين أهمية لمنتجاتهم في عملية الشراء والتعامل مع مؤسساتهم، بدلاً من شراء كل صغيرة وكبيرة من الهايبرماركيتات التي تستحوذ على الأموال، وتقوم بإخراجها من البلاد يومياً على شكل أرباح، لتذهب هذه الأموال إلى الخارج بصورة شرعية وغير شرعية، وتلعب دوراً في تنمية بلدانهم وزيادة فرص العمل لأبنائهم.
نحن اليوم نبحث عن فرص عمل للعُمانيين سواء في العمل الحكومي أو الخاص، بجانب حثهم على فتح مؤسساتهم التجارية والعمل التجاري الحر. فلتكن الاقتراحات السابقة موضع التنفيذ اليوم وخلال السنوات المقبلة لندفع بالأبناء للتوجه والعمل كرواد أعمال. فما تمَّ تحقيقه خلال السنوات الماضية في إطار الحملات التي نادت بضرورة توجه العمانيين في الأعمال الحرة، رأينا أنَّ الكثير من العمانيين خسروا في إطار المنافسة غير المُتكافئة من المؤسسات التي تدار بالتجارة المستترة. فهل يمكن تغيير هذا الواقع المُر خلال الفترة المقبلة؟؟